النظام الأمني للخليج والمقاربة الإيرانية

يُعدّ الخليج من المناطق الجغرافية المُميَّزة على مستوى العالم من ناحية أهميته الاقتصادية، السياسية والاستراتيجية. مناطق كانت وما زالت تجعل منه مسرحاً للأحداث الأمنية والصِراعات السياسية.

ارتفعت وتيرة الانتشار الأميركي في الخليج منذ عام 1991

أدَّت المكانة الفريدة لمنطقة الخليج وموقعه في اقتصاد العالم وأمنه إلى أن يصفه بعض المُحلِّلين الاستراتيجيين بقلب العالم. وهذا ما دفع بلدان المنطقة والقوى الدولية لتفكّر ومنذ القِدَم بترتيباتٍ أمنيةٍ في هذه المنطقة.

خلال العقود الماضية قامت القوى الأوروبية ومنها البرتغال وبريطانيا بنشر قواتها بصورةٍ دائمةٍ ومؤثّرةٍ في الخليج، وبعد انسحاب البريطانيين من المنطقة مطلع العقد الثامن من القرن الماضي، سعت أميركا لتكون اللاعِب الأبرز في المنطقة، لذلك عقدت مجموعة من الاتفاقات الأمنية مع دولها.

وحدَّدت الولايات المتحدة الأميركية سياستها في الخليج على أساس الاستراتيجية الثُنائية بالاعتماد على العمودين التوأمين (إيران والسعودية)، ثم تحوَّلت إلى استراتيجية موازنة الضعف بين إيران والعراق في الثمانينات، ثم إلى الاحتواء المُزدوج لإيران والعراق في التسعينات.

ارتفعت وتيرة الانتشار الأميركي في الخليج منذ عام 1991، وعقدت أميركا اتفاقيات ثنائية مع الدول الخليجية، فكان الغزو الأميركي للعراق ضمن سياسة فرض الهيمنة الأمنية الأميركية، ما أدَّى إلى تعزيز التأثير الأميركي على المُعادلات في الخليج وأصبحت أميركا لاعباً رئيساً في الأمن الإقليمي.

وتُشير تجربة العقود، بل القرون الماضية إلى أن النظام الأمني للخليج كان دائماً يتبع رغبات القوى العُظمى وميولها، ولكن هل أدَّى انتشار القوات الأجنبية في الخليج إلى زرع الاستقرار المُستَدام في المنطقة؟ 

بنظرةٍ سريعةٍ إلى التاريخ نجد أن انتشار قوات البلدان الأجنبية في منطقة الخليج لم يؤثّر إيجاباً أبداً على الأمن فيها ولم يصب في صالح الأمن في هذه المنطقة الحسّاسة بل عرَّض الأمن فيها للخطر وحال دون تقارُب بلدانها.

وفي هذا الصَدَد تُعتَبر إيران صاحبة أكبر ساحل مُطلّ على الخليج، وتمتلك في هذه المنطقة كميات هائلة من النفط والغاز ما جعلها دائماً اللاعِب الأهم في الترتيبات الأمنية في المنطقة.

قبل انتصار الثورة الإسلامية، كانت إيران تبني مُقارَبتها الأمنية من خلال الائتلاف مع القوى الغربية وبصورةٍ خاصةٍ الولايات المتحدة الأميركية بالإضافة إلى التعاون مع العربية السعودية ضمن إطار استراتيجية العمودين التوأمين الأمنية الأميركية في المنطقة.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حاولت الأخيرة أن تتَّخذ سياسة أمنية مُستقلّة عن السياسات الأميركية والسوفياتية، وحاولت إيران التشارُك مع دول المنطقة من أجل إقامة نظامٍ أمني إقليمي مُستقل.

ترى إيران أن منطقة الخليج تعاني من تحدياتٍ مثل الخلافات القومية، والخلافات الحدودية، وتهريب المُخدّرات، والجريمة المُنظّمة، ونشاط الجماعات الإرهابية، وانتشار القوات الأجنبية، ونمو سباقات التسلّح وأولوية الحَسْم العسكري في حلّ الخلافات، وتعتبر إيران أن كل هذه الأمور يمكن حلّها عن طريق تدوين آليات شاملة.

تقوم المُقارَبة الأمنية الإقليمية الإيرانية على تجارب إيران في السنوات الماضية وتسعى إلى إقامة أمنٍ مُستَدام. ويقوم النموذج الأمني المُقتَرح من قِبَل إيران على الأمن الذاتي ويعتمد على سيطرة دول المنطقة على الأمن، حيث تُطالب إيران بوقف التدخّل الأمني الأجنبي في المنطقة وترى أن انتشار القوات الدولية يؤدِّي إلى تشديد التطرّف ونشر الإرهاب والتنافُس السلبي بين دول المنطقة وتراجُع مستوى الثقة بينها.

وتُشدِّد إيران على أن التعاون الأمني بين دول المنطقة يجب أن يقوم على أساس التعاون والثقة المُتبادَلة بين دول المنطقة لا على أساس النماذج الأمنية التي تُفرَض عليها من الخارج.

وفقاً لهذه النظرة يجب أن تصبّ المصالح الفردية للدول ضمن إطار المصالح الجماعية ومن دون تبعيّة للدول الأجنبية، ويجب أن تقتنع دول المنطقة بإمكانية تحقيق الأمن الإقليمي من دون التدخّل الأجنبي.

ومن الواضِح أن إيران تواجه مشاكل في إطار إقناع دول الخليج برؤيتها الأمنية للمنطقة، وجانب كبير من هذه المشاكل يتعلَّق بالمسار التاريخي والتطوّرات الإقليمية الحالية إضافة إلى الخلافات السياسية، والانتشار الأميركي في المنطقة، وتنامي محور المُمانَعة في المنطقة وازدياد القوَّة الإيرانية وتغيير مُعادلات إقليمية لصالح إيران، بالإضافة إلى شكوكٍ ما تزال تُساوِر بعض دول المنطقة تجاه البرنامج النووي الإيراني رغم تأكيدات إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية حيال سلميّة البرنامج النووي الإيراني.

لذلك بالنظر إلى التحديات الكُبرى والاختلافات الأمنية في الشرق الأوسط وتدخّل عوامل وطنية وإقليمية ودولية في انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة، فإن فرض الأمن وفقاً لنموذجٍ أمني قائم على التعاون الإقليمي يحتاج إلى عمليةٍ طويلةٍ وتدريجيةٍ من بناء الثقة والمُضيّ قُدُماً بالتنفيذ.

رغم ما مرّ، فإن هذه العوائق ليست بالمشاكل المُستعصية ويمكن لمُبادراتٍ سلميةٍ مثل اقتراح معاهدة عدم الاعتداء المُقدَّم من إيران أن يكون خطوة جيّدة في هذا المسار وفي مُعالجة شكوك دول المنطقة تجاه بعضها البعض، ويُساهم في توطيد العلاقات بين الدول وتعزيز التواصُل بينها وشفافيّة الأهداف والمصالح في مجال السياسة الخارجية للبلدان وبالتالي حل الخلافات تدريجاً وبناء الثقة.

وعلى الجانب الآخر توجد جهود واضِحة من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية من أجل عرقلة تعزيز العلاقات بين دول المنطقة ومنعها من إنشاء نظام أمني مُشتَرك، وبالتالي تضمن مكاناً لها في الخليج لنشر قوّاتها وقواعدها وهو ما يُعيد المنطقة إلى المُربَّع الأول ويجعلها ساحة لصِراعات القوى الأجنبية ومسرحاً لأجنداتها.