الهروب إلى الحرية

الكتابة عن الأسرى شيء، ومن الأسرى شيء آخر، فشتان بين الشعور بالبرد وتوهّمه، وشتان بين الإحساس بالألم وتخيلّه.

  • فكرة الحرية، بالمعنى المادي، تحرُّراً فعلياً من السجن، ناقشها المناضل الفلسطيني حمزة يونس، في كتابه
    فكرة الحرية، بالمعنى المادي، تحرُّراً فعلياً من السجن، ناقشها المناضل الفلسطيني حمزة يونس، في كتابه "الهروب من سجن الرملة".

"هروبي إلى الحرية"، عنوان كتاب لرئيس البوسنة والهرسك الأسبق، علي عزت بيغوبيتش، كتبه في سجن فوتشا في إبّان الحكم الشيوعي في يوغوسلافيا. الكتاب جاء – كما يقول صاحبه – وليدَ تفكير في الحرية، جسدياً ومعنوياً، وتفكير في الحياة والمصير والناس والأحداث، وتفكير في كل ما يخطر في بال سجين خلال ألفَي يوم وليلة. ومما كتب موضّحاً فكرة الحرية: "هذا الذي سيقرأه القارئ كان هروبي إلى الحرية. ومن الطبيعي، ومع أسفي، لم يكن ذلك هروباً حقيقياً، وكنت أودّ لو كان كذلك. الأمر هنا يتعلّق بهروب معيّن، كان ممكناً في سجن فوتشا ذي الجدران العالية، والقضبان الفولاذية، وهو هروب الروح والفكر. ولو أُتيح لي فعلاً الهربُ لأَعطيت الأولوية للهروب الجسدي قبل هذا الثاني".

الهروب إلى الحرية، وفق طريقة علي عزت بيغوفيتش، بالروح والفكر، لجأ إليه ثائرٌ آخر يحمل عبق الشهداء: فرحان السعدي، وعز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني. هو الشيخ المجاهد رائد السعدي، الصامد في سجن جلبوع المُحصّن، وفي الزنزانة نفسها رقم (5)، والتي شهدت ملحمة انتزاع الحرية للأسرى الستة الأبطال، وكان قَدَره المكتوب أنْ يُبدل بثائرٍ آخر ليلة الهروب الكبير. وكان لكاتب هذه السطور شرف تقديم كتاب رائد السعدي الأخير في احتفالية في غزة، والذي  يحمل عنوان "أمي مريم الفلسطينية"، قبل أسبوعٍ واحد من ملحمة انتزاع الحرية. ومما جاء في التقديم: "الكتابة عن الأسرى شيء، ومن الأسرى شيء آخر، فشتان بين الشعور بالبرد وتوهّمه، وشتان بين الإحساس بالألم وتخيلّه... فالكتابة من الأسرى وُلدت من رحم المعاناة، وبزغ نورها من عَتَمَة السجن، فكُتبت بماء الحياة، على أوراقٍ سقطت من شجرةِ العمر، وكتاب السعدي (أمي مريم الفلسطينية) ينتمي إلى هذا النوع من الكتابة".

كان هروب علي عزت بيغوبيتش ورائد السعدي من السجن هروباً بالروح من قيد المكان وكآبة الجدران، وهروباً بالفكر من رتابة الزمان وملل الأيام. وهذا ما لا يملكه السجّان، كما ذكر محمد محفوظ في كتابه "الذين ظلموا"، مستحضراً محنةَ كل سجين رأي، أو مطالب بحق، مخاطباً الطغاة، بقوله: "العقدة أنك لا تستطيع أن تسجن مفكراً، فأنت تحدِّد إقامته فقط. أمّا عقله فيندفع أشد عنفاً وانعتاقاً. وأيضاً لا تستطيع أن تقتل مفكراً، فدمه يروي ويُخصّب بذور أفكاره، فتنمو وتتسع وترتفع". 

لكنّ هذا التحرّر المعنوي من قيد المكان والزمان، بالروح والفكر، يدعمه الأمل في التحرر الجسدي منه. وهذا الأمل في التحرر من قضبان السجن يسكن قلوب كل المغيَّبين خلف الأسوار، يحتضنه الأسرى عند نومهم ليلاً، فيُضْفي على أحلامهم قَدْراً من السكينة والأمان، ويوقظهم صباحاً فيرسم على وجوههم ملامح البُشرى والبهجة. وهذا ما سجّله كاتب هذه السطور في يوميات السجن عن الأسرى، عندما كان واحداً منهم، بقوله: "كل سجين يعيش على أمل أنه سيتحرّر من السجن قبل ميعاده، وإذا لم يكن هناك أمل موجود، فإنه سيخلقه من فراغٍ مفقود". 

فكرة الحرية، بالمعنى المادي، تحرُّراً فعلياً من السجن، ناقشها المناضل الفلسطيني حمزة يونس، ابن قرية عارة، في المثلّث الفلسطيني المُحتل عام 1948م، في كتابه "الهروب من سجن الرملة". وهو الذي انتزع حريته من غول السجون الإسرائيلية ثلاث مرات مُتتالية، كانت أُوْلاها عام 1964م. وبعد كل مرة، كان يفكر في الهروب من السجن من دون خيار آخر بعد كل اعتقال. وسجّل ذلك في كتابه، متحدثاً عن سيطرة فكرة الحرية بالمعنى الفعلي، عبر انتزاعها عنوةً من فك السجّان، مؤمناً بأنْ لا شيء يخسره سوى القيد جبراً والموت قهراً، فقال: "... وماذا أفعل إذاً؟، هل أتراجع وأستسلم لأقبع في السجن مدة مجهولة؟ وما الفرق بين السجن والقبر؟!". 

فكرة الحرية في درب حمزة يونس سار عليها الأسرى الفلسطينيون الستة، الذين تحرروا من سجن جلبوع، وانتزعوا حريتهم بإرادتهم وأيديهم، بعد فضل الله ومدده، والذي جعل من بين أيدي السجانين سَدّاً، ومن خلفهم سداً، فأغشاهم الله تعالى، فهم لا يُبصرون، فانطلق الأبطال الستة: محمود العارضة، وزكريا الزبيدي، ومحمد العارضة، ويعقوب قدري، وأيهم كممجي، ومناضل نفيعات، تماماً كأسرى الشعب الفلسطيني من حركة "الجهاد الإسلامي" في عملية الهروب الكبير من سجن غزة المركزي عام 1987م، بقيادة الشيخ الشهيد مصباح الصوري، والذين كسروا قضبان الزنزانة، فانتزعوا حريتهم من أنياب السجّان الإسرائيلي، فكانت الحرية في عقيدتهم اسماً آخر للجهاد والمقاومة، ومدخلاً يوصلهم إلى منزلة الشهود والشهادة... فكان دمهم المسفوح في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، على تراب الوطن، هو الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الأولى آخر عام 1987م. 

واليوم، يتكرَّر المشهد الوطني الجميل مع ستة أسرى أبطال، في تواصل مع أجيال النضال والتحرير. ستة أبطال خرجوا من بطن الحوت المُحاط بظلمات السجن، ليرسموا للوطن صورةَ عزٍّ وفخار، ترمز إلى انتصار الحياة على الموت، واستعلاء الحرية على القيد، وتقدُّم الأمل على اليأس، وغلبة الإرادة على العجز... ستة أبطال لا خيار لهم سوى انتزاع حريتهم خارج سجن المكان أحراراً، أو انتزاع حريتهم خارج سجن الجسد شهداءَ... ولسان حالهم يقول، ومعهم كل الأسرى الذين ما زالوا مُغيَّبين في عمق ظلام سجون الاحتلال خلف شمس الحرية، كما قال الشاعر المصري الثائر عبد الرحمن الأبنودي، مُعبِّراً عن فكرة الحرية في مفهومها الكلي، في قصيدته "يا قبضتي دقّي على الجدار": 

"يا قبضتي دقي على الجدار لحد ليلنا ما يتولد له نهار... يا قبضتي دقي على الحجر لحد ما يصحّي جميع البشر... يا قلوب بتنزف دم في العتمة... يا قلوب بتنزف دم وتغني... سجنونا قاصدين يسجنوا الكلمة... والكلمة غصب عنها وعني... طلعت من القضبان والأسوار".