إلى أين تتّجه بوصلة طالبان بعد الانسحاب الأميركي؟
المشهد في أفغانستان ينطوي على قراءات جديدة بعد سيطرة طالبان على الحدود مع الصين فيما تبرز تساؤلات حول وجهة طالبان السياسية في المرحلة المقبلة.
بعد وصول قوات حركة "طالبان" إلى الحدود مع الصين وسيطرتها على المعبر الحدودي بين ولاية واخان - بدخشان وإقليم شينغيانغ الصيني المسلم، أضحى المشهد في أفغانستان ينطوي على قراءات جديدة. وكانت الصين قد استبقت الأحداث، وأرسلت طائرات لإجلاء المئات من طواقمها الدبلوماسية والعاملين في الشركات في العاصمة كابول وعدة مدن أفغانية. في المقابل، فعلت الهند الشيء نفسه، وأجلَت المئات من رعاياها، وأغلقت قنصليتها في قندهار.
وأشارت مصادر محلّية إلى أنَّ مقاتلي "طالبان" كانوا يحثّون الخطى منذ نحو أسبوع للوصول إلى الحدود مع الصين، على الرغم من وجود قوات حكومية أفغانية وجماعات مسلحة مدعومة من الصين. ويبلغ طول الحدود بين أفغانستان والصين 95 كم، وتقع في النهاية الجنوبية لسلسلة جبال الهمالايا، وتحاذي أكثر من مدينة يقطنها المسلمون الصينيون الإيغور.
وفي هذا الإطار، تعكف الأوساط السياسيَّة والإعلامية في دول الجوار الأفغاني على معرفة وتحديد وجهة "طالبان" في المرحلة المقبلة وما إذا كانت نقلت بندقيتها إلى الجانب الغربي بالكامل. وإزاء هذه التطورات المفاجئة، شكَّكت دول عدة، من بينها إيران، بما كان يدور في أروقة الحوار الذي جمع قادة "طالبان" والمسؤولين الأميركيين في الدوحة، والذي استمر عدة أشهر، وما إذا كانت حقيقته التنسيق وليس التفاوض، بدليل أنَّ القتال الذي تخوضه الجماعة المسلحة اليوم لا علاقة له بما قيل عن نتائج توصلت إليها طاولة "السلام" في الدوحة.
ومع توالي انهيار الدولة الأفغانية، بدأت طروحات تحذر من أن ما يجري في الحقيقة معد له سلفاً في الأروقة الغربية، وأن الصين أولاً، ومن ثم إيران ثانياً، هما المستهدفان في المرحلة التالية. وتعهَّدت قيادات في "طالبان" في موسكو وطهران بأن الحركة لن تكون مخلباً لضرب الاستقرار في الجوار، إلا أن مراقبين حذروا من الأخذ بتعهدات الحركة بعد تحذيرات الرئيس الأفغاني بأنه خلص إلى حقيقة، وهي أن "طالبان" مشروع يعمل لصالح الغير.
إلى ذلك، بدأت تتضح ملامح الاستراتيجية الأميركية من قرارها الانسحاب من أفغانستان وترك الأوضاع تذهب إلى المجهول، وذلك في سياق ما يعرف بـ"مبدأ الفوضى الخلاقة" لتحقيق عدة أهداف، كما يعتقد مراقبون:
أولاً: إنتاج معادلات جديدة تفكّك العلاقات والمصالح بين الدول الكبيرة المحيطة بأفغانستان على خلفية تباين مصالحها في المنطقة وأفغانستان.
ثانياً: إضعاف كل من الصين وروسيا، وإبقاء الأخيرة منشغلة باحتواء الهاجس الأمني في دول الرابطة في آسيا الوسطى.
ثالثاً: إسقاط مشروع "الحزام والطريق" عبر قطع طريق الحرير وزرعه بألغام الفوضى.
رابعاً: وضع الأشواك في خاصرة إيران من الجهة الشمالية الشرقية لتهديد أمنها، بعد أن رفضت الانصياع إلى شروط طاولة فيينا، وأظهرت صمودها وممانعتها أمام العقوبات القاسية.
وفي السيناريوهات المحتملة، تراهن الولايات المتحدة، من خلال إعادة الفوضى إلى أفغانستان ومحيطها ونشوب الصراعات، على انقسام الدول إلى محورين:
1- محور صيني- باكستاني بعد تفكيك المصالح بين دول وسط آسيا وغربها، تبعاً لتباين مصالحها.
2- محور هندي- روسي تنضم إليه دول أخرى، من بينها تركيا.
ولكنَّ هذا الرهان الأميركي الذي يدفع في اتجاه تقويض "العالمية الصينية" وقطع أرجل الروس ومنعهم من الوصول إلى المياه الدافئة، بات يصطدم بمتغيرات واسعة طرأت على موازين القوى في هذه المنطقة والعالم، كما أن النموذج الريغاني في الثمانينيات وتصورات العجوز كوندوليزا رايس بشأن تفكيك حلقة أوراسيا ما بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، لا مكان ولا مجال لتطبيقهما في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين.
ويجادل أصحاب هذا الرأي بالقول إنَّ التنافس الهندي الباكستاني يتضاءل أمام المصالح المشتركة التي تربط البلدين في كلّ من الصين وروسيا. ومع احتواء الصين الوضع في مقاطعة تركستان الشرقية (شينجيانغ) التي يقطنها الصينيون المسلمون، لا تبدو الفرص متاحة أمام المراهنين على جعل حدود هذه المقاطعة مع أفغانستان معبراً لتدفق الإرهابيين إليها.
صحيح أنَّ التجارب في الماضي أثبتت أنَّ الولايات المتحدة مستعدّة للتخلّي عن المعايير الأخلاقية، وبالتالي من المحتمل أن ترعى تحالفاً بين "طالبان" و"القاعدة" وجماعة "داعش" في أفغانستان أو - تبنّي وتحريك أيّ من هذه الجماعات - لتهديد دول معينة، ومنها الصين، وتحت عناوين دينية وطائفية وعرقية، إلا أنَّ الصحيح أيضاً هو أن دول هذه المنطقة تحديداً، ولا سيَّما الصين وإيران وروسيا، اكتسبت خبرة كبيرة في محاربة الإرهاب، وتدرّبت بشكل جيد على العمل الجماعي والتنسيق المشترك في وأد أيّ تحالف غير شرعي تعيد الولايات المتحدة إنتاجه مع الجماعات الإرهابية.