"الإنذار الأحمر" وفشل الرهان الأميركي

لا يأتي التصعيد العسكري ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا مفاجئاً لبعض متتبّعي السياسة الأميركية في المنطقة.

  • نجد الأميركي اليوم كمن
    نجد الأميركي اليوم كمن "بلع المنجل"

قالت مجلة "فورين بوليسي"، في "تقرير الوضع" ليوم الخميس، 8 تموز/يوليو 2021، إن العراق دخل في حالة "الإنذار الأحمر". وأضاف التقرير أنه ربما يكون الرئيس جو بايدن على وشك التخلص من أعباء الانخراط العسكري الأميركي في أفغانستان، والذي امتد إلى قرابة عقدين من الزمن، إلاّ أن هناك ساحة حربٍ أخرى توجد فيها قواتٌ أميركيةٌ، وتُنذر بأن تتحوّل إلى شوكةٍ في خاصرة "البيت الأبيض"، في إشارةٍ إلى الساحة العراقية. 

يأتي إعلان "الإنذار الأحمر" بعد تصاعد العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية في الساحة العراقية، وتوأمها الساحة السورية، بحيث قامت قوى المقاومة المسلَّحة، خلال الأسبوعين الأخيرين، باستهداف عدة مواقع في العراق وسوريا توجد فيها قواتٌ أميركيةٌ، كان بينها - على سبيل المثال لا الحصر - استهداف "قاعدة الأسد" الجوية في العراق بأربعة عشر صاروخاً، أدَّت إلى وقوع إصابات في صفوف الأميركيين. وتمّ أيضاً استهداف مطار أربيل، الذي تتمركز في داخله قوات أميركية - والذي يقع بالقرب منه مبنى القنصلية الأميركية - بعدة مُسَيَّرات مفخَّخ.، وبالإضافة إلى تلك الهجمات، تعرَّضت عدة قوافل دعمٍ لوجستيٍّ للقوات الأميركية لهجماتٍ عبر عبواتٍ ناسفةٍ في أكثر من مدينةٍ عراقيةٍ.

أمّا الساحة السورية فشهدت، في الأيام القليلة الماضية، عدةَ هجمات بالمُسَيَّرات المفخَّخة على مواقع لقوات الاحتلال الأميركي الموجودة في حقل العمر النفطي.

لا يأتي هذا التصعيد العسكري ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا مفاجئاً لبعض متتبّعي السياسة الأميركية في المنطقة. لعلّ القراءة الأدقّ تضع هذه الهجمات في سياق المعركة المستمرة من أجل إنهاء الوجود العسكري الأميركي في منطقة الهلال الخصيب، لا لمجرد كونها ردّاً ظرفياً على العدوان الجوي الأميركي الأخير في 27 حزيران/يونيو، والذي استهدف مواقع الحشد الشعبي العراقي المرابطة عند الحدود العراقية السورية. 

من خلال متابعة أداء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لبضعة شهور، منذ تولّيه دفّة الحكم، يبدو أنها جاءت، وفي مخيِّلتها مقارَبة لوضع المنطقة، تقوم في جزءٍ من جوانبها على أساس الاستثمار في سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب السابقة، والمتعارَف عليها بـ"سياسة الضغوط القصوى" تجاه إيران، بحيث بات واضحاً في السياسة الأميركية الخارجية الميل إلى محاولة التَّخفُّف من أعباء منطقة غربي آسيا العسكرية قدر المستطاع، بهدف التركيز على منافسة صعود جمهورية الصين الشعبية في الساحة الدولية. ويبدو أن رؤية التخفُّف هذه كانت تقوم على تصوُّرين اثنين:

- التصور الأول يقوم على الانسحاب العسكري من أفغانستان، كما يجري الآن فعلاً، في محاولةٍ لإقفال باب الاستنزاف في هذه الساحة، ولاسيما أن الانسحاب الأميركي مِن أفغانستان لا يؤدّي إلى زيادة التهديدات على أمن الكيان الصهيوني. 

- أمّا التصور الثاني فيقوم على العودة السريعة إلى الاتفاق النووي الإيراني، على أساس قراءةٍ تقول بوصول إيران إلى مرحلة الإنهاك التامّ، بفعل "سياسة الضغوط القصوى". وعليه، صارت اليوم إيران جاهزةً لتقديم التنازلات المطلوبة أميركياً في سياساتها الخارجية في الحد الأدنى، ولاسيما تلك التي تتعلق بمنطقة غربيّ آسيا ودعم حركات المقاومة في الإقليم، الامر الذي يجعل استمرار الوجود العسكري الأميركي - ولو في حدوده الدنيا - في العراق وسوريا، غير ذي تكلفةٍ تذكر. وكذلك، من الممكن إجبار إيران على تقديم تنازلاتٍ في برنامجها الصاروخي الساعي لتطوير الصواريخ الباليستية في الحد الأقصى، بحسب الفهم الأميركي.

إلاّ أن التصور الثاني اصطدم بمعطيين، أحدهما قديمٌ والآخرُ مستجدّ. أمّا المعطى القديم، فيتمثّل بأن إيران كانت قد رفضت، على نحو حاسمٍ، مناقشة برنامجها الصاروخي في أثناء جولات التفاوض التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في عام 2015، ناهيك برفض إيران القاطع المساومةَ خلال جولات التفاوض تلك على سياساتها الخارجية ودعم حركات المقاومة في الإقليم. فدعم حركات قوى المقاومة، ضمن السياسة الخارجية الإيرانية، مبنيٌّ على رؤيةٍ استراتيجيةٍ، تندرج ضمن مشروعها الأشمل في الإقليم الذي يقضي بمجابهة القوى الإمبريالية العالمية، بالإضافة إلى التأصيل الشرعي لهذا الالتزام الأخلاقي بدعم المستضعَفين ضمن نظام حكم الجمهورية الإسلامية.

ويضاف إلى هذا وذاك أمرٌ رئيسٌ، يتمثّل بأنَّ حركة قوى المقاومة في الإقليم تنطلق من إرادةٍ ذاتيةٍ لطرد المحتل عن أراضيها، وهي لا تأتمر بإرادة أيّ قوى إقليميةٍ، بل إن المسألة تكمن في تكامل أهداف قوى المقاومة ومصالحها مع المشروع الإيراني الأشمل في المنطقة، والذي يرمي إلى التخلص من هيمنة القوى الإمبريالية العالمية على عموم منطقتنا.

بعد الخروج الأميركي الأحادي الجانب من الاتفاق النووي، عبر قرارٍ من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أكّد المرشد الإيراني السيد علي خامنئي في عدة تصريحاتٍ، أنه في حال العودة إلى الاتفاق النووي، يجب على الحكومة الإيرانية التزام هذه الضوابط التي تمنع التفاوض على كلٍّ مِن برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الخارجية. وعلى ما يبدو، فإن إدارة الرئيس جو بايدن أخطأت عند تصنيف هذه التصريحات على أنها تصريحاتٌ تفاوضيةٌ، ليتبيّن لها بعد ذلك، في محادثات جنيف، أنها كانت مواقف مبدئية لا يمكن لأيّ حكومةٍ إيرانيةٍ تجاوزها، فخاب رهان إدارة جو بايدن على لجم حركات المقاومة في كلٍّ مِن العراق وسوريا، من خلال محاولة الضغط على إيران.

أمّا المعطى المستجدّ، فكان معركة "سيف القدس" التي كشفت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة في غزة هشاشةَ الكيان الصهيوني، وأظهرت بوضوحٍ مدى التهديد الذي تمثّله حركات المقاومة المسلّحة في فلسطين وفي الإقليم على أمن الكيان الصهيوني ومستقبله، ولاسيّما في ظلّ فشَل الرهان الأميركي على انتزاع ضماناتٍ من إيران وسائر أركان محور المقاومة، ترتبط بحفظ أمن الكيان الصهيوني في مقابل العودة إلى الاتفاق النووي، بحيث كان رهاناً مبنياً في الأصل على قراءةٍ خاطئةٍ لحقيقة موقفَي حركات المقاومة وإيران كما أسلفنا.

لهذا، نجد الأميركي اليوم كمن "بلع المنجل"، فلا هو قادرٌ على الانسحاب من سوريا وتخفيف حضوره العسكري في العراق، ليتفرّغ لمواجهة الصين قبل تأمين ضمانات لأمن الكيان الصهيوني ومستقبله، ولا هو قادرٌ على البقاء أبداً بالزَّخَم نفسه في المنطقة لحماية أمن الكيان الصهيوني، بسبب ما لهذا من آثار سلبية فيما بات يعدّها معركته الرئيسة ضدّ الصين، وتِباعاً روسيا.

يمكن التنبّؤ بكون محور المقاومة يقرأ هذا المأزق الأميركي. فإن صحّت هذه النبوءة، وأظنها صحيحة، فعندها يمكن فهم سياق التصعيد العسكري في وجه القوات الأميركية في الأسبوعين الأخيرين. وهذا يُبشِّر باستمرار هذا التصعيد، وبصيفٍ ساخنٍ نسبياً للقوات الأميركية، لإفهام الأميركي أن استحقاق الانسحاب من المنطقة هو استحقاقٌ جديٌّ، وأن عملية التفاوض على سحب قواته لن تستمر إلى ما لا نهاية.