عقوبات جماعية ومساعدات إنسانية!
هل يُعقل أن تتداعى عشرات الدول إلى مؤتمر في روما لمناقشة مساعدات إنسانية لسوريا من دون ذكر السبب الأساسي في معاناة السوريين جميعاً، ألا وهي الإجراءات القسرية الأحادية الجانب، والمفروضة على الشعب السوري ظلماً وعدواناً؟
طوال الشهرين الماضيين، انشغل القيّمون على وسائل الإعلام الغربية ومراكز الأبحاث بموضوع وحيد عن سوريا، وهو ضرورة فتح ما سمّوه "ممرّات إنسانية عبر الحدود"، متباكِين على من سيُصيبهم الجوع والفقر إذا لم يتم السماح لأيدي الغرب الخيّرة بأن تمتدّ لتنقذ حيواتهم.
صدّقوا الكذبة التي كذبوها على أنفسهم، وفرحوا بها لأنها تعطيهم الارتياح الزائف إلى أنهم منسجمون مع قواعدهم الأخلاقية التي يتحدثون بها دوماً، وهي الحرص على الناس وعلى غذائهم وصحتهم. لكنّ الغريب في الأمر أن كلّ هذا الإعلام الغربي الموجَّه تحدَث عن ثلاثة ملايين يقطنون في الشمال الغربي والشمال الشرقي، ولم يذكر أبداً الملايين العشرين من السوريين، والذين يرزحون تحت عقوبات جماعية، لاأخلاقية ولاشرعية ولاقانونية. وفي الحقيقة، فإنّ هذه العقوبات جريمة إبادة، وهي المسؤولة عن الفقر والجوع والغلاء، التي يعاني جرّاءها ملايين السوريين، لأنها عملياً تمنع عنهم سبل الغذاء والدواء والطاقة، وتعاقب أيَّ طرف يحاول بيع هذه المواد الأساسية لإنقاذ حياة أيّ إنسان، أو يحاول مدّ يد العون إليهم، أو خرق هذه العقوبات، بأي وسيلة كانت.
والغريب في الأمر أن أحداً لم يربط بين "قانون قيصر" الإجرامي، والذي هو ليس قانوناً، بل جريمة إبادة جماعية موجَّهة ضدّ الشعب السوري المسالم، لأنه يمثّل خرقاً لكل القوانين الإنسانية والأخلاقية، وبين معاناة هذا الشعب على مدى السنوات الماضية. ولم يحاول أي متحدث في الغرب أن يتحدى هذه الموجة الإعلامية الصاخبة، والموجَّهة سياسياً من جانب الأجهزة المخابراتية والعسكرية نفسها، التي موّلت الإرهابيين وسلّحتهم وأرسلتهم إلى سوريا، من خلال إبراز حقيقة أن كل المساعدات المرسَلة من جانب الأمم المتحدة توزّعها منظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا على مدى الجغرافيا السورية، لكنّ ما يريد الغرب فعله هو انتهاك السيادة السورية أولاً، ووضع أسس لتقسيم سوريا ثانياً، وإمداد مرتزقته من العصابات الإرهابية بالسلاح، تحت مسمى مساعدات إنسانية. وهذا ما فعله بالشعوب طوال تاريخه الاستعماري الدموي.
هل يُعقل أن تتداعى عشرات الدول إلى مؤتمر في روما لمناقشة مساعدات إنسانية لسوريا من دون ذكر السبب الأساسي في معاناة السوريين جميعاً، ألا وهو الإجراءات القسرية والأُحادية الجانب، والمفروضة على الشعب السوري ظلماً وعدواناً؟ ألم يكن الأجدر بهذه الدول، إنْ كانت صادقة، أن ترسل المساعدات مباشرة عبر الوسائل المتَّبَعة دولياً، وعبر المنافذ الحدودية والموانئ السورية.
وفي أعقاب هذا المؤتمر، تكتب جريدة "واشنطن بوست"، في افتتاحيتها في 30 حزيران/يونيو 2021، أنه "لا يوجد مكان أفضل من سوريا للتعبير عن قيمنا، من خلال إيصال المساعدات الإنسانية، والتوصّل إلى تسوية للحرب، وفق ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن 2254".
ويشكو الكاتب أن سوريا شكّلت عبئاً على الدبلوماسية الأميركية طوال السنوات العشر الماضية. وعلى مثل هؤلاء الكتاب أن يسألوا السوريين: بمَ تسببت لهم الولايات المتحدة على مدى السنوات العشر الماضية؟ وما هي الجرائم التي ارتُكبت بحقهم؟ وكيف ينظرون إلى نهب قمحهم ونفطهم واحتلال أرضهم بقوة السلاح الأميركي، في انتهاك صارخ لكل القوانين والشرعة الدولية؟
أتساءل، وأنا أقرأ كلّ ما يصدر عن سوريا في الإعلام الغربي، عن الصورة المشوَّهة، والتي تتشكّل حُكماً في أذهان القراّء الغربيين، نتيجة المعلومات المضلِّلة، والتي لا تمتّ إلى واقع الحال بصلة، والتي تملأ صفحات هذا الإعلام الذي تحتكره الحكومات الغربية، وتسيّره عبر المخابرات الغربية. لذلك، فإن إعلامهم يتجاهل الواقع والحقيقة وكل ما يعتري حياة السوريين من صعوبات ومآسٍ، لا يتم التطرّق إليها أبداً، لأن التطرق إليها يعني الإشارة إلى الفاعل والمتهَم الغربي المجرم. لذلك، فإن كل ما يُكتَب عن سوريا يُكتَب بصيغة "المبنيّ للمجهول"، تماماً كما درج الصهاينة على بثّ الأخبار عن فلسطين والفلسطينيين منذ عقود، إذ لا توجد جملة بصيغة المبني للمعلوم، لأن المبنيّ للمعلوم يتطلّب ذكر الفاعل المسبّب بالجرائم بحقّ الملايين من السوريين الأبرياء والمسالمين، وهذا أمر غير مسموح به.
في كل هذا الترويج الإعلامي في مؤتمر روما وما سبقه وما تلاه، يختصرون سوريا بالشمال الغربي والشمال الشرقي، وبحفنة من الإرهابيين والمحتلين، بينما لا يوجد ذكر للشعب السوري الذي عانى وصبر وحرّر الجزء الأكبر من أرضه، ويحاول إعادة بناء حياته وممتلكاته، على الرغم من الصعوبات التي ولّدتها العقوبات المجرمة عليه.
وفي افتتاحية مجلة "النيوزويك"، في 30 حزيران/يونيو أيضاً، تشعر كأن سوريا والعراق مسكونان بمليشيات إيرانية فقط، ولا وجود للشعبين السوري والعراقي، وأن الولايات المتحدة مضطرة إلى الردّ على هجمات الطائرات الإيرانية المسيَّرة في العراق. لذلك، هي تقصف الحدود العراقية السورية قرب البوكمال. وبما أن للولايات المتحدة الحق، كما تقول الافتتاحية، في حماية قواتها في أيّ مكان في العالم، لذلك لم يهتم أحد حين قصفت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي منشآت وأشخاصاً، وقتلت مَن قتلت، واعتبروها "أعمالاً دفاعية عن النفس". ولا يُخفي كاتب المقال أن المسألة لا تنحصر فقط فيما إذا كان هذا العدوان قانونياً أم لا، بل السؤال هو: لماذا توجد قوات احتلال أميركية في العراق وسوريا؟ ولماذا تعمد عناصر في الجيش العراقي، الذي تدربه الولايات المتحدة، على مهاجمة القوات الأميركية. وهو يحاول في مقاله أن يصحّح "حَوَلاً استراتيجياً"، في نظرة الولايات المتحدة إلى تدريب هذا الجيش، وأن الولايات المتحدة لم تتمكّن من خلق حالة الردع في العراق.
أولاً، إن قوات الاحتلال الأميركية لا تهاجم معبر البوكمال، ولا تحتفظ بمعبر التنف، من أجل سلامة قواتها التي يجب ألا تكون موجودة اصلاً، بل من أجل ضمان سلامة الإرهابيين الذين تحميهم وتحرّكهم متى تشاء وكيفما تشاء. ثانياً، لأنها تريد قطع التواصل الجغرافي بين العراق وسوريا من جهة، ومحاصَرة الملايين من الشعبين في البلدين، ومنع أيّ تبادل تجاري ينفعهما. كما تهدف إلى قطع التواصل بين إيران والعراق وسوريا ولبنان من جهة أُخرى. وهذا يمثّل أحد الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني، الذي يعتبر التواصل بين هذه البلدان الموجودة في محور مقاوم خطراً وجودياً عليه؛ أي أن الولايات المتحدة تنفّذ أهدافاً إسرائيلية، وهي لا تقوم بالرد على أي هجوم لأنها هي التي تبدأ العدوان دائماً.
ثالثاً، إذا كان كاتب الافتتاحية يعتقد أن الجيش العراقي، أو أي جيش في المنطقة، سيعبّر مستقبلاً عن امتنانه وولائه للجيش الأميركي، فهو واهم. فشعوب المنطقة أذكى كثيراً مما تعرفون وتظنّون. والشعب في كل من العراق وسوريا يدرك أنّ قوات الاحتلال الأميركية هي أولاً قوات عدوانية، هدفها قمع الشعبين وحرمانهما من الحرية والسيادة، وموجودة من أجل نهب ثرواتهما. ويدرك الشعبان في سوريا والعراق أنّ هذه القوات المعتدية هي التي تمنع التواصل بين بلديهما، وهي التي تمنع فتح الحدود بين بلدين شقيقين متحابّين، بينما تريد فتح الحدود مع محتل تركي استخدم الحدود طوال السنوات العشر الماضية لإرسال الإرهابيين المسلّحين والمدرَّبين غربياً إلى سوريا، وتزويدهم بالمال والعتاد والسلاح.
خطر لي وأنا أقرأ افتتاحيتي "الواشنطن بوست" و"النيوزويك"، والمؤرَّختين في 30 حزيران/يونيو 2021، أن شعوب الغرب عبر الأطلسي ستكون في حال أفضل لو أنها لا تقرأ مثل هذه الافتتاحيات الموجَّهة سياسياً من جانب حكومات ترتكب جرائم حرب ضدّ الشعوب العربية، في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا. فهذه التحليلات المضلِّلة لا تمتّ بصلة إلى واقع الحال في بلداننا ومنطقتنا، وتنبع من تحيّز كتّابها إلى فكرة التفوّق الاستعمارية، وتجاهلهم واقعَ الشعوب ومعاناتها ووعيها وطموحها.
ها هم اليوم يخرجون من أفغانستان بعد التسبب بمآسٍ لا تُحصى للملايين من الشعب الأفغاني المسالم، ولا أحد يعلم لماذا دخلوا، ولماذا خرجوا، ولم يتمكنوا من الخروج إلاّ بعد التفاوض مع "طالبان" التي ادّعوا أنهم ذهبوا إلى هناك لتخليص الشعب الأفغاني منها، وإذ بهم يساهمون، عبر سياساتهم، في إدامتها وانتشارها.
أتساءل عن مناهج التاريخ في الولايات المتحدة، وعما تدرّسه للطلاب، إذا كان هذا ما تجود به مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، والتي تُعتبر نخبوية في الغرب؟ لكنّ هذا حديث آخر، ويحتاج إلى وقفة مقبلة.