مَن يمكن أن يستثمر في مصفاتَي دير عمار والزهراني؟
الواضح، من المعلومات المتوافرة في الأروقة الرسمية، أن لا وجود لأيّ حركة جدية بعدُ في اتّجاه المصفاتين، لا براً ولا بحراً.
في المدرسة في عكار، لم يكن هناك في الكُتب المدرسية أيُّ إشارة إلى شيء أو مكان نعرفه، نحن أولادَ الريف المنسيِّ البعيد، غير مصفاة دير عمار. فمن كتاب إلى آخر، كانوا يذكرون المصفاة كواحدة من ركائز البلد الاقتصادية، وكنا نراها في طريقنا، من طرابلس وإليها، جاثمةً بخزاناتها المحترقة. كان ما يربطنا بتاريخ البلد وجغرافيته واقتصاده، بضعةَ خزانات أحرقتها الحرب. ومع ذلك، غالباً ما كان الأهل يتحدثون عن تلك المساحة المحترقة، بكثير من الحماسة.
بدأت شركة نفط العراق (IPC) ضخَّ النفط في مصفاة دير عمار عام 1940. كان المشروع ثلاثياً:
- استخراج النفط الخام من كركوك.
- نقله، عبر خطّ أنابيب، من كركوك إلى حمص. ومن حمص ينطلق خطّان إضافيان: واحد في اتّجاه بانياس، والآخر في اتّجاه دير عمار.
- في دير عمار، تتمّ تصفيته وتغذية السوق اللبنانية من جهة، وتصديره إلى دول كثيرة، انطلاقاً من مرفأ طرابلس، من جهة أُخرى.
لكنّ تأميم عام 1972 شمل شركة IPC، فتوقّف ضخ النفط العراقي، لتحاول الدولة اللبنانية عامي 1981 و1982 إعادة تشغيل المصفاة، قبل شهور قليلة من بدء حرب طرابلس. وفي تلك الحرب، أُحرقت المصفاة وخزاناتها عن سابق تصوُّر وتصميم، على الرغم من بُعدها عن التموضعات العسكرية.
حكومات تجفيف مصادر الدخل
في سياق تجفيفها كلَّ مصادر الدخل للدولة اللبنانية من أجل الاتّكال على الاستدانة فقط، عمدت حكومات ما بعد الحرب إلى طيّ صفحة مصفاة دير عمار، لحرمان الدولة من عائدات التصفية والتوزيع في السوق اللبنانية، بالإضافة إلى عائدات التصدير، إفساحاً في المجال أمام حِيتان الاستيراد والتوزيع في السوق اللبنانية، للتحول إلى واحد من أقوى "الكارتيلات".
وإذا كانت قدرة الضخّ القصوى لأنابيب كركوك بلغت 900 ألف برميل يومياً، أي ما يوازي 120 ألف طن، فإنّ "الكارتيل" المموِّل للسياسيين والإعلاميين سوّق نظرية تقول إن قدرة إنتاج المصفاة لا تتجاوز 21 ألف برميل، بينما حاجة السوق اللبنانية تبلغ 140 ألف برميل.
وعليه، بدلاً من مضاعفة القدرتين الإنتاجية والتخزينية لمصفاة دير عمار (كما فعل السوريون في بانياس)، تعالوا نُهمل المصفاة ونواصل الاستيراد والتوزيع بالسعر الذي نريده. هكذا قرّر "الكارتيل"، وهكذا سوّقَ، وهكذا كان.
دير عمار: روسيا اولاً
عملياً، ليس لدى العراق سوى ثلاثة منافذ لتصدير نفطه: الأول جنوبيّ، يُعرف بـ"خور زبير" في محافظة البصرة على الخليج. الثاني شماليّ عبر خط أنابيب، موصولة بميناء جيهان التركي. أمّا الثالث، فهو خط أنابيب كركوك حمص دير عمار، مع العلم بأن المنفذَين، الأول والثاني، لا يتمكّنان من تصدير أكثر من 3 ملايين برميل يومياً، بينما الإنتاج العراقي من النفط الخام يمكن أن يصل إلى أكثر من تسعة ملايين برميل يومياً. وعليه، فإن العراق يحتاج إلى منفذ ثالث (ورابع وخامس). ولطالما عبّر العراقيون عن تطلّعهم إلى تشغيل المنفذ الغربي (سوريا- لبنان). إلاّ أن جدية البحث في مصفاة دير عمار تستوجب التوقف عند أربع نقاط رئيسية:
1. القدرة الأمنية – العسكرية العراقية – السورية – اللبنانية على حماية الأنابيب من شمالي الأنبار حتى دير عمار، مروراً بحمص وباديتها، مع العلم بأن الحروب العراقية، ثم حرب مخيم نهر البارد، والحرب السورية، ألحقت أضرار متفاوتة بالأنابيب.
2. القدرة المالية، بحيث تتجاوز قيمة الاستثمار المطلوب ثلاثة مليارات دولار، لبناء مصفاة أكبر في دير عمار، مع خزانات جديدة. وهنا ثمة ثلاثة مستثمرين محتملين:
- الحكومة العراقية مباشَرة.
- عملاقة النفط العالمية روسنفت (الروسية)، التي تستثمر في حقول نفط عراقية، كما تستثمر في خزانات النفط في دير عمار. ويمكن أن تستفيد من الوجود الروسي في سوريا، عسكرياً وسياسياً، ولديها أخيراً زبائنها حول العالم.
- الشركة الإيطالية "إنّي"، التي تستثمر حقولاً للنفط في العراق، وهي جزء من الائتلاف الخاصّ بالتنقيب عن النفط اللبناني، لكنها لا تُبدي حماسة كبيرة للاستثمار أكثر في العالم العربي.
3. الاستثمار غير مُجْدٍ لأيّ شركة عالمية أو حكومة، إذا كان الهدف هو السوق اللبنانيّة فقط، بحيث لا بدّ من أن يكون الهدف هو السوق اللبنانيّة، بالإضافة إلى التصدير من مرفأ طرابلس إلى دول أُخرى، وهو ما يحتّم على المستثمر إيجاد زبائن آخرين في منطقة تزدحم بالمصدِّرين.
4. في ظل قانون قيصر، لا يمكن الحديث مع أيّ مستثمر، سواء كان جهة حكومية أو من القطاع الخاص، قبل إيجاد آلية قانونية للالتفاف على العقوبات، في ظل مرور النفط الخام العراقي الحتمي بالأراضي السورية، مع ما يستتبع ذلك من رسوم سورية يُفتَرَض أن تُدفَع من دون مخالفة قانون قيصر.
مع العلم بأن القانون 549/2002 يسمح لوزارة الطاقة بتلزيم المصافي من دون المرور بأيّ عراقيل سياسية أو تشريعية. وعمدت الوزارة، أكثر من مرة، إلى ما تسمّيه "استدراج نيّات" في هذا الشأن، لكنّ أحداً لم يتقدَّم بحُكم ضعف الحماسة لما يُسَمى "سوقَ التكرير"، مقارنة بالحماسة المقبولة في ما يخصّ "سوق التخزين"، التي استثمرت الشركة الروسية فيها.
الزهراني: إيران أولاً
النفط الخام يمكن أن يأتي بالأنابيب براً من العراق، ويمكن أن يأتي أيضاً بناقلات النفط. وهنا تحضُر في الحسابات مصفاة الزهراني جنوبي لبنان. الأخيرة أعدّت لاستقبال النفط السعودي، عَبْرَ خط أنابيب يمرّ في الأردن، فالجولان السوري، ثم لبنان.
ومع احتلال الجولان، توقّف العمل بهذا الخط طبعاً، لتبدأ مصفاة الزهراني استقبال السفن حتى حدث خطأ بشري في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أدّى إلى توقّف المصفاة عن العمل، قبل أن يهاجمها اللصوص ويعبثوا بها بحثاً عن معدن البلاتينوم. ومقارنة بدير عمار، فإن خزانات الزهراني لم تُحرَق، وهي أكبر كثيراً، بحيث يوجد خزانان ضخمان، سعة كل واحد منهما مليون برميل. وعليه، فإن قوة "دير عمار" تكمن في ارتباطها بخط الأنابيب العراقي، وبوجود حركة روسية في كل من العراق وسوريا ودير عمار، بينما قوة "الزهراني" تكمن في حجم الخزانات وانخفاض تكلفة التأهيل أو الترميم أو إعادة البناء، نظراً إلى محدودية الأضرار. ومع ذلك، يمكن التفكير في أكثر من مستثمر في دير عمار (أبرزهم الروسي)، بينما لا يمكن التفكير، بشأن الزهراني، في أكثر من مستثمرَين رئيسيَّين:
أولاً، القطري، الذي خسر "رهاناته الاقتصادية" في سوريا، وهو كان سبق له الحديث مراراً وتكراراً عن تفكيره الجديّ في استثمار مصفاة الزهراني. وتُنقَل عن مسؤولين قطريين رسميين أحاديثُ عن عروض رسمية قُدِّمت إلى رئيس الوزراء اللبناني السابق فؤاد السنيورة، آثر تجاهلها بالكامل.
ثانياً، الإيراني، الذي سيؤمّن، بلا شك، ربحاً سياسياً لحزب الله وحلفائه في حال دعمه أيَّ استثمار من القطاع الخاص في مصفاة الزهراني. إلاّ أن الأهم هو تأمينه لنفسه منصةَ انطلاق أو توزيع للنفط المكرَّر في قلب البحر المتوسط.
في النتيجة، لَمْ يُضف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، أيَّ تفاصيل، في حال وجودها، بشأن هذين المِرْفَقين الاقتصاديَّين المهمين، لكنّ إشارته إليهما نفضَت غبار الإهمال عنهما، وأعادت الأنظار إليهما.
إلاّ أن الواضح، من المعلومات المتوافرة في الأروقة الرسمية، أن لا وجود لأيّ حركة جدية - بعدُ – في اتّجاه المصفاتين، لا براً ولا بحراً. فلا إيران أقدمت، ولا العراق ولا روسيا ولا قطر، على الرغم من أن الدول الأربع مهتمّة، في حين أنّ القرار المطلوب، على المستوى اللبناني، ليس قرار دولة، ولا قراراً إعلامياً، ولا قراراً شعبياً، وإنما قرار وزير، يمكن أن يُتَّخَذ بسهولة في حال تحرك المستثمر.