"سيف القدس" وتداعي المشروع الصهيوني: الدعم الأميركي
أبرزت "سيف القدس" مخاوف "إسرائيل" من تغيّر صورتها داخل المجتمع الأميركي، بالإضافة إلى اهتزاز مكانتها داخل النظام السياسي في واشنطن.
بدا موقف الولايات المتحدة الأميركية داعماً كبيراً لـ"إسرائيل" في معركة "سيف القدس" كالعادة. لكن، مع استمرار القتال، بات يظهر أن الدعم الأميركي ليس "شيكّاً مفتوحاً" لـ"إسرائيل"، كما وصفه الإعلام الإسرائيلي، إذ بات يَظهر، منذ اليوم السادس للمعركة، أن هناك تغيّرات في الموقف الأميركي، وبدأ الحديث الأميركي يتمحور حول تخفيض وتيرة القتال، وصولا إلى دعوة قاطعة، وجّهها جو بايدن، إلى وقف إطلاق النار، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جوهرياً عمّا كشفته معركة "سيف القدس" من تغيّرات في الموقف الأميركي تجاه "إسرائيل"؟
أبرزت "سيف القدس"، في صورة واضحة، المخاوف الإسرائيلية من تغيّر صورة "تل أبيب" داخل المجتمع الأميركي، بالإضافة إلى اهتزاز مكانتها داخل النظام السياسي في الولايات المتّحدة الأميركية، سواء في مؤسسة الرئاسة، أو الكونغرس الأميركي، بحيث ظهر، على نحو جليّ، في أثناء معركة "سيف القدس" الخلافُ الحادّ داخل الحزب الديموقراطي الحاكم، بشأن طبيعة الموقف تجاه "إسرائيل". ففي الوقت، الذي رفض بايدن الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، أصدر 29 عضواً من التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، داخل مجلس الشيوخ، من أصل 50 عضواً، دعوة إلى وقف فوريّ لإطلاق النار، بعكس رغبة "إسرائيل"، ناهيك بتقديم قادة هذا التيار، داخل الحزب الديمقراطي، مُذَكِّرة لإيقاف تزويد "إسرائيل" بصفقة أسلحة صواريخ دقيقة بقيمة 735 مليون دولار. وعلى الرَّغم من تراجعهم عن فكرة حظر الصفقة، فإنّه وُضِعَ لإتمامها شرطُ وقف "إسرائيل" الفوريّ للنار.
على الرَّغم من أن "إسرائيل" تحظى بتأييد عميق داخل الحزب الديمقراطي في أميركا، فإن هذا الدعم يأتي من الجِيل القديم داخل قيادة الحزب. لكنّ "إسرائيل" تواجه إشكالية حقيقية مع الجيل الشابّ الجديد داخل الحزب، والذي لديه تحفظات كبيرة على دعم الحزب التقليدي لـ"إسرائيل"، الأمر الذي جعل "إسرائيل" القضيةَ الخارجية الأساسية التي يوجد خلاف داخلي بشأنها، داخل الحزب الديمقراطي. بل أكثر من ذلك، باتت "إسرائيل" نقطة الخلاف المركزية بين معسكرين داخل السياسة الأميركية. وبالتالي، أضرّ ذلك، بصورة أساسية، في التأييد الإسرائيلي العابر للأحزاب داخل السياسة الأميركية، والتي كانت ترى فيها محل إجماع أميركي، الأمر الذي يهدّد بفقدان "إسرائيل" أهم مكاسبها التقليدية المركزية داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي يُعتَبر تحدياً استراتيجياً خطيراً يجب على "إسرائيل" مواجهته.
أدركت الإدارة الأميركية، بقيادة بايدن، أن استمرار معركة "سيف القدس"، وقتاً طويلاً، يحمل في طيّاته زيادة احتمال خروج الأوضاع عن مسار المصلحة الأميركية، كما صرّح الجنرال ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون، بصورة علنية، قائلاً إن "استمرار القتال يحمل في طياته زيادة احتمال تقويض استقرار المنطقة"، الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى زيادة تدخُّلها من جديد في القضية الفلسطينية، على نحو خاص، وفي المنطقة بصورة عامة. بناءً عليه، يتمّ حرف بَوْصَلة سلَّم الأولويات الأميركية، والذي عبَّر عنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين، بالقول "إنّ على البنتاغون زيادة تركيزه على الصين، التي تراها واشنطن العدوّ الاستراتيجي الرقم واحداً لها".
استمرار القتال زاد في عدم فهم الإدارة الأميركية ماهيةَ استراتيجية "إسرائيل" في المعركة، وماهيةَ الأهداف التي تسعى لتحقيقها. لذلك، ترسَّخَ لدى الإدارة الأميركية أن بنيامين نتنياهو يستخدم المعركة لمصالح سياسية داخلية، لها علاقة بمحافظته على منصب رئاسة الوزراء، حتى ولو على حساب المصالح الأميركية العليا. وبالتالي، وقع نتنياهو في خطأ جوهري للمرة الثانية، بحيث ما زال يعتقد أنه هو من يقود المشروع الصهيوني، وتناسى أن القادة الفعليين للمشروع الصهيوني ليسوا موجودين في "اسرائيل"، بل في واشنطن العاصمة، وفي البورصات العالمية في "وول ستريت".
وقوف نتنياهو في وجه باراك أوباما، ثمّ الاستعلاء الذي مارسه في عهد دونالد ترامب، جعلاه يظنّ نفسه قادراً على تعيين رئيس الولايات المتحدة والتلاعب به. أضف إلى ذلك عدم تفهُّم نتنياهو حاجةَ الولايات المتحدة الأميركية إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران، الأمر الذي سيؤدي إلى تبريد منطقة الشرق الأوسط، وضمان استقرارها، على الأقل في المدى القريب، ويسمح للولايات المتحدة الأميركية بالتركيز على مناطق أكثر استراتيجية لها. لذلك، بات نتنياهو لا يخدم مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، الساعية للمحافظة على مكانتها دولةً عظمى أولى مهيمنة على العالم، في ظل تحدي كل من الصين وروسيا لهذه المكانة الأميركية، بل تحوّل، عَبرَ موقفه الحاد من الاتفاق النووي مع إيران، إلى عامل سلبي، من الممكن أن يورّط الولايات المتحدة الأميركية في مستنقع حرب جديدة، قد تستمرّ أكثر من عشرين عاماً، على غرار حرب أفغانستان.
كان لا بُدّ من إبعاد نتنياهو عن المشهد من أجل إعادة بَوصَلة المشروع الصهيوني من جديد، بحسب الرؤية الأميركية، وإعادة تأكيد قواعد العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، في الإطار الذي يعيد إلى المشروع الصهيوني دورَه المرسوم له في خدمة الامبريالية العالمية. وأهم تلك القواعد:
أولاً، "إسرائيل" في حاجة ماسّة دوماً إلى الدعم الأميركي، وخصوصاً أمام التحديات الاستراتيجية التي تحيط بها، وتحت شعار "هناك أميركا من دون إسرائيل"، لكن لا إسرائيل من دون أميركا".
ثانياً، إن أيّ مواجهة إسرائيلية مع الإدارة الأميركية، في أيّ ملف يَمَسّ بمصلحة الولايات المتحدة الأميركية كدولة عظمى، ستنعكس سلباً على "إسرائيل"، في كثير من النواحي، كون تلك المعارضة تَمَسّ بأجندة الولايات المتحدة الأميركية، والمتمثّلة بسعيها للمحافظة على قيادة النظام الدولي.
ثالثاً، التزام الولايات المتحدة الحيادَ بين المعسكرات الصهيونية السياسية، على الرّغم من مساهمتها في إقصاء نتنياهو. لذلك، حرصت إدارة بايدن على تمهيد الطريق لوصول نفتالي بينت، زعيم حزب" يمينا" الديني الاستيطاني، إلى منصب رئيس الوزراء، دلالةً على أن المشكلة محصورة في توجُّهات نتنياهو، وليس موقفاً سلبياً ضد "اليمين الإسرائيلي".