ستيفين والت: سرّ العلاقة الأميركيّة الإسرائيليّة
يشير الكاتب إلى أنَّ الوقت بات مناسباً لإنهاء العلاقة الأميركية الخاصة مع "إسرائيل" التي باتت مؤذية لاستراتيجية بايدن.
في العام 2006، أصدر أستاذا العلاقات الدولية ستيفن والت وجون ميرشايمر دراسة حول دور اللوبي الإسرائيلي في التأثير في السياسة الخارجية الأميركية. آنذاك، دار جدل واسع حول هذه الدّراسة، وتعرَّضت لانتقادات شرسة من التيار الداعم للكيان، ورفضت جامعة "هارفرد" أن يكون اسمها أو شعارها موجودين على الغلاف، كما رفضت مجلة "The Atlantic" نشرها.
السؤال الأساسي الذي انطلقت منه الدراسة أو لنقل مشكلة البحث: لماذا تستمرّ الولايات المتحدة الأميركية بدعم "إسرائيل" بهذا الشكل الاستثنائي؟ فهي تعطي - بحسب المؤلّفين - الأولوية لأمن "إسرائيل" منذ العام 1967، حتى لو كان ذلك على حساب أمنها، وتقدم لها مساعدات مالية كبيرة، حتى في لحظات انتعاش اقتصادها ("إسرائيل")، إذ تمنح كلّ إسرائيلي معونة مباشرة تبلغ نحو 500 دولار سنوياً (بحسب وقت الدراسة في العام 2006).
كما أنَّها لا تلاحقها في وجوه إنفاق هذه المساعدات، ولا تبتزّها كما تفعل مع الدول الأخرى، وتسمح لها بالتطوير العسكري الذاتي مستخدمةً هذه الأموال، وتسمح لها بالحصول على الأسلحة الأميركية المتطوّرة والحسّاسة. وقد استخدمت حقّ النقض "الفيتو" 32 مرة من العام 1982 إلى العام 2006.
إضافةً إلى ذلك، عرقلت كلّ مساعي الدول العربية لإدراج الترسانة النووية الإسرائيلية في جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وعندما تعلن الولايات المتحدة نفسها وسيطاً للتفاوض، يكون المشهد تفاوض الفلسطينيين مع طرف إسرائيلي بعلمين لـ"دولتين".
يناقش الكاتبان في الدّراسة عدداً من الأسباب المحتملة لكلّ ذلك، ويقومان بتفنيدها، واحداً تلو الآخر. ويمكن تصنيف هذه الأسباب التي ناقشاها تحت عنوانين كبيرين: هل ثمة مصلحة استراتيجية كبرى تبرر هذا الدعم؟ هل ثمة ضرورة أخلاقيّة مقنعة؟
نقاش الحجّة الأولى: مصلحة استراتيجيّة كبرى
في الدراسة، يرى الكاتبان أن دور "إسرائيل" خلال الحرب الباردة كان قائماً على احتواء التمدد السوفياتي في المنطقة، والمواجهة العسكرية مع حلفائه في مصر وسوريا، وتدعيم العلاقة مع حلفاء الولايات المتحدة، والتعاون معهم في تقديم المعلومات الاستخباراتية، ولكنهما يعلّقان أيضاً بأنَّ ثمة مبالغة في أهمية هذا الدور؛ فالولايات المتحدة لم تستطع الاعتماد على "إسرائيل" في مواجهة الثورة الإسلامية في إيران، واضطرت إلى الاعتماد على قوات التدخل السريع الخاصة بها، ومن خلال قواعدها العسكرية لاحقاً.
يستطرد الكاتبان ويطرحان مثالاً آخر هو احتلال العراق في العام 2003؛ فعلى الرغم من لهفة "إسرائيل" تجاه عمليَّة الاحتلال، فإنها لم تستطع في الوقت نفسه أن تقدم مساعدة كافية للولايات المتحدة، كما أن مجرد مشاركتها المعلنة كانت لتسبّب حرجاً للدول العربية التي أعلنت تحالفها الواضح مع الولايات المتحدة.
نقاش الحجة الثانية: مبررات أخلاقية
يعتبر الكاتبان أنَّ المبررات "الأخلاقية" التي تقدّمها الولايات المتحدة الأميركية للدفاع عن "إسرائيل" هي مبررات واهية. وقد فنّدا الحجج "الأخلاقية" الأربع (أن "إسرائيل" ضعيفة ومحاطة بالأعداء، وأنها زميلة ديمقراطية، وأن اليهود عانوا بسبب جرائم سابقة، وأن السلوك الإسرائيلي يتفوق أخلاقياً على سلوك أعدائها)، وبالترتيب، كالتالي:
أولاً: بنت "إسرائيل" كل ما يمكن بناؤه لحماية نفسها عسكرياً. وفي حربها في العام 1948م، كانت تمتلك القوة العسكرية الكافية.
ثانياً: دعمت الولايات المتحدة في تاريخها عدداً كبيراً من الديكتاتوريات، وكانت أولويتها الأولى هي مصلحتها الاستراتيجية. لذلك، يبدو ذلك مبرراً واهياً، ولا سيّما أنّ "إسرائيل" أُنشِئت صراحة على أنها "دولة" يهودية، وليس في ذلك أي انسجام مع مبادئ الولايات المتحدة الليبرالية.
ثالثاً: ليس منطقياً أن يتحمّل الفلسطينيون ضريبة "جريمة تاريخية" ليس لهم علاقة بها، كما أن بن غوريون نفسه قالها بوضوح: "من المستحيل إجلاء العرب من دون إكراه؛ إكراه وحشي".
رابعاً: كان سلوك "إسرائيل" وحشياً، سواء داخل فلسطين أو خارجها. يتضمّن ذلك إنشاء "دولة" في الأراضي العربية بالعنف، وحرب العام 1956 ضدّ مصر، وطرد السكان من الجولان...
الحجَّة الحقيقيّة للدعم في نظر المؤلّفين
يعتبر الكاتبان أنَّ الحجّة الحقيقيّة تنطوي على دور اللوبي الإسرائيلي، وهما لا يصفان هذا اللوبي كقوة "خفية وسرابية"، كما يفضّل الكثير تعريفه، وإنما مجموعة من الأفراد والمنظمات التي تعمل بنشاط على صياغة السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه مؤيد لـ"إسرائيل"، ومن ذلك "الإيباك" والصهيونية المسيحية.
وتتضمّن نشاطاتهم التأثير في نتائج الانتخابات الأميركية وقرارات الكونغرس، ودعم المرشّحين المؤيدين لـ"إسرائيل"، والعمل على إفشال المرشحين غير الداعمين لها، واعتماد قاعدة منع انتقاد السياسة الإسرائيلية، مهما كانت (حتى لو كان من ذلك الضغط على "إسرائيل" في وقف بناء جدار الفصل العنصري)، والتبرعات المالية الضّخمة، والتلاعب بوسائل الإعلام، وبناء الـ"think tanks" على شاكلة معهد واشنطن، والتغلغل في الأوساط الأكاديمية (راقب موقع "Campus watch" الذي يعمل على محاربة الأكاديميين المعارضين للرواية الإسرائيلية).
رأي قديم جديد لستيفين والت في "Foreign policy"
في مقال ورد في مجلَّة "فورين بوليسي" في 27 أيار/مايو 2021، يشير الكاتب إلى أنَّ الوقت بات مناسباً الآن لإنهاء العلاقة الأميركية الخاصة مع "إسرائيل"، ويقول: "صحيح أن الدعم الاقتصادي الأميركي لإسرائيل يصل إلى 3 مليار دولار سنوياً، إلا أنَّ ذلك لا يشكل عبئاً كبيراً على دولة يصل حجم اقتصادها إلى 21 تريليون دولار. يكمن العبء الأساسي في حماية إسرائيل في الجانب السياسي، ولا سيَّما أن إدارة جو بايدن تحاول إعادة الهيبة للولايات المتحدة من خلال التركيز على شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحاول توظيفها في مواجهة الصين وروسيا".
وبحسب والت، تبدو العلاقة الخاصّة مع "إسرائيل" مؤذية لاستراتيجية بايدن؛ فمحاولة الولايات المتحدة التركيز على شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستوي مع منع مسودة مجلس الأمن من الصدور 3 مرات، ولا تستوي مع الموافقة على شحنة أسلحة تُقدّر قيمتها بـ735 مليوناً.
يورد الكاتب أنَّ انشغال الولايات المتّحدة بـ"إسرائيل" كثيراً ما صرف انتباهها عن ملفات أخرى، كالمناخ والوباء وترتيبات الخروج من أفغانستان، وأن المعاملة الخاصّة لـ"إسرائيل" عقّدت خطوات المعالجة الأميركية لملفات في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الاتفاق النووي، كما أنَّ هذه العلاقة الخاصَّة عقدت المعالجة الأميركية لما جرى في مصر، ودفعتها إلى البحث دائماً عن تيار معادٍ لحركة "حماس"، كما اضطرتها إلى غضّ البصر عن الممارسات السعودية (اغتيال خاشقجي والحرب على اليمن).
بين آراء ستيفن والت في دراسته المشتركة مع ميرشايمر، وآرائه في مقاله الجديد في الـ"Foreign policy"، تبقى الأبواب مفتوحة على المرحلة المقبلة، بين أهمية الكيان الصهيوني الاستراتيجية للولايات المتحدة وإمكانيتها في تحمل أعباء هذه العلاقة. لذلك، ثمة ملاحظات لا بد من التوقف عندها وتأملها جيداً:
أولاً: لا يمكن النظر إلى الكيان الصهيوني خارج إطار النظرة إلى فكرة الإمبريالية الأميركية، واعتباره قاعدة متقدمة لها. كان هذا الدور نفسه مع بريطانيا، وهو كذلك مع الولايات المتحدة، ونحن لا ننسى نقل "إسرائيل" من منطقة العمليات العسكرية في أوروبا إلى منطقة العمليات العسكرية الوسطى في المراحل الأخيرة من إدارة ترامب.
إنَّ الدور الذي أدّاه الكيان في استنزاف المشروع الناصري في الستينيات، المعادي أساساً للإمبريالية الأميركية، هو دور مشابه لذلك الذي أداه في دعم العصابات المسلحة في سوريا. وكما يقول المفكّر نعوم تشومسكي، إن "إسرائيل" ذخيرة يمكن استخدامها وقت اللزوم.
ثانياً: لا تعني آراء والت في تفكيك دور اللوبي الإسرائيلي دعماً جوهرياً للقضية التاريخية في فلسطين، فثمة أفكار يطرحها في سياق تقديم النصيحة للسياسة الخارجية الأميركية، وأخرى تتقصَّد عدم الوصول إلى جوهر الحق التاريخي الفلسطيني وطبيعة الصراع الصفرية.
ثالثاً: مع الدور الشرس الَّذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي، لا يمكن إغفال الطبيعة المشتركة للكيانين، الأميركي والإسرائيلي، القائمة أساساً على فكرة المجتمع الاستيطاني المهاجر، وحجم المشتركات في أدبيات بناء الكيانين، الصهيونية والصهيونية المسيحية.
رابعاً: مساحة الشراكات أو الوكالة الاستراتيجية التي تجمع بين الطرفين ما زالت قائمة، على الرغم من كلّ النقاشات الدائرة حولها، ومن ذلك التعاون الاستخباراتي والسيبراني ومهمات إنابة مرشحة إلى النمو في الخليج وأفريقيا.