الانسحاب الأميركيّ من الشّرق الأوسط: حقيقة أو مناورة؟

التحذيرات التي يطلقها المسؤولون الأميركيون قد تكون جزءاً من التصريحات التي توظّف في الكثير من الأحيان في التنافس الداخلي وفي الصراع بين الأجهزة.

  • ليس من السهل تخطّي نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة حتى في ظلّ انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان.
    ليس من السهل تخطّي نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة حتى في ظلّ انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان.

راقب العديد من المحلّلين والمتابعين لشؤون الشرق الأوسط باهتمام زيارة الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة الوسطى الأميركية، إلى الشرق الأوسط، والتعليقات التي أدلى بها خلال جولته. وكان لافتاً التحذير الذي أطلقه: "من المرجّح أن تعمل روسيا والصين على توسيع نفوذهما في الشرق الأوسط حين تسحب الولايات المتحدة قواتها من المنطقة"، وأنهما ستعمدان إلى استغلال الفراغ الذي يمكن أن يتركه الأميركيون في المنطقة.

وبحسب ماكينزي، "ستحاول روسيا بيع أنظمة دفاع جوي وأسلحة أخرى لأيّ دولة تتطلّع إلى الشراء، بينما يتمثّل هدف الصين الطويل المدى في توسيع القوة الاقتصادية وإنشاء قواعد عسكرية في الشرق الأوسط في نهاية المطاف".

في المبدأ، هناك شيء من الصحَّة في هذا التحذير، إذ إنّ أيّ فراغ استراتيجي يتمّ تركه في أي بقعة من العالم، ستحاول الدول المهيمنة الأخرى، سواء كانت دولاً عظمى أو إقليمية، أن تغتنم تلك الفرصة المؤاتية لتوسيع نفوذها. ويمكن بالفعل أن تقوم كلٌّ من روسيا والصين باستغلال مبيعات الأسلحة وعقود الاستثمار المختلفة كوسيلة لكسب التأييد في المنطقة.

على الرّغم من ذلك، وكما يبدو واقع الحال في الشرق الأوسط اليوم، ليس من السهل تخطّي نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة أو إزاحته، حتى في ظلّ انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان.

وهنا، يمكن أن نشير إلى أن التحذيرات والتصريحات التي يطلقها المسؤولون الأميركيون (ومنهم ماكينزي) قد لا تعكس دائماً الواقع الميدانيّ والسياسيّ السائد، بل قد تكون جزءاً من التصريحات التي توظّف في الكثير من الأحيان في التنافس الداخلي، وكجزء من الصراع بين الأجهزة التي تتَّسم بالتعقيد والتشابك داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها.

وهنا، يجب أن نشير إلى أنَّ استراتيجيات السياسة الخارجية في العلاقات الدولية تُصاغ بموجب نمطين:

- النّمط الأوّل: نموذج "المنارة"

في هذا النمط التقليدي، تكون هناك استراتيجية واضحة محددة متعددة الوجوه والمراحل، مع أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تؤدي الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً دور "المنارة" التي تقود كلّ العمليات الخارجية في منطقة محددة.

هذا النمط تستخدمه الصّين بشكل أساسيّ، إذ يتمّ اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسيّة وخطط سنويَّة. وتعمل جميع الأجهزة، العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتنموية، في نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدةً بالاستراتيجية التي ترسمها الدولة المركزية، والتي تؤدي دور "المنارة".

- النمط الثاني: نموذج "المرايا"

بموجب هذا النّمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناءً على تعدّد المصالح والمجموعات ومجموعات الضغط والقطاع الخاصّ والمؤسّسات الحكومية، التي يكون لكلِّ واحدة أهدافها ومصالحها، والتي تتنافس في ما بينها للتأثير في السّياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة انعكاساً ومرآةً لمجموعات متعدّدة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.

يُعتمد هذا النموذج بشكل أساسيّ في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتنافس اللوبيات ومجموعات المصالح للتأثير في السياسة الخارجية. ولعلَّ تضارب مصالحها هو الذي يولّد - غالباً - انطباعاً لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات الأميركية، وهو أمر غير صحيح. ولا شكّ في أنَّ هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح، للتأثير وفرض وجهة نظرهم حول الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف.

انطلاقاً مما سبق، يمكن القول إنَّ التحذير الذي أطلقه ماكينزي حول الانسحاب العسكري الأميركي من الشرق الأوسط، يعكس وجهة نظر جهة أو جهات ضمن المؤسسات الأميركية، وقد يكون رسالةً إلى أصحاب ومجموعات المصالح الأخرى أو أصحاب القرار، لتغليب وجهة نظر البنتاغون على وجهات النظر الأخرى الداعية إلى انسحاب عسكري من الشرق الأوسط، علماً أنَّ النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لا يرتبط بعدد الجنود المنتشرين في المنطقة؛ فالحروب الجديدة (الحروب الهجينة) لم تعد تعتمد على الآليات العسكرية فحسب، بل إنها تعتمد على التكنولوجيا والطائرات المسيّرة وغيرها أيضاً، إضافة إلى الوسائل السياسية والتكنولوجية والاقتصادية وأدوات التأثير عبر المجتمعات المدنية وغيرها. 

واليوم، لا تقاتل الولايات المتحدة في حروب تقليدية، ولم يكن انخراطها العسكري يحتاج يوماً إلى أعداد كبيرة من الجنود، وخصوصاً في ظلِّ اعتماد مبدأ عسكري منذ ما بعد حرب العراق 2003، وهو "لا جنود في الميدان" (no boots on the ground).

أَضِف إلى ما سبق، أنَّ إدارة بايدن لم تعلن - لغاية تاريخه - وجود أي خطة أميركية للانسحاب من الخليج أو سوريا أو العراق. ماكينزي نفسه كان قد أعلن في وقت سابق أنَّ الولايات المتحدة "لن تخفض عديد قواتها في العراق، بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة، بل قد تزيده".

في كلِّ الأحوال، وبغضِّ النظر عن الانسحاب العسكري المحدود الذي ستقوم به الولايات المتحدة، يبدو أنَّ هناك خطة واضحة للرئيس الأميركي الحالي جو بايدن اليوم لتهدئة الأمور في الشرق الأوسط والعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، مع حفظ مصالح الولايات المتحدة الأميركية، للتفرغ لجبهات ثلاث تبدو أكثر أهمية: تقوية الداخل والقيام بما يجب من بنى تحتية وغيرها، لعودة أميركا إلى سوق المنافسة العالمية أكثر قوة، واحتواء النفوذ الصيني في العالم والتفوّق على الصين اقتصادياً وتكنولوجياً، واحتواء النفوذ الروسي وتحجيم سوق السلاح الروسي الذي شهد قفزة نوعية هائلة من العام 2008 ولغاية اليوم.