الانتخابات الإيرانيَّة والمتغيّرات في المعسكرين الإصلاحيّ والأصوليّ
يعكس التنوع والتغير في الاتجاه السياسي في إيران حيوية سياسية تفتح الباب أمام إنتاج تيارات جديدة تقدم رؤية ثالثة تخترق تياري الإصلاح اليساري والأصولي اليميني.
على الرّغم من تبقّي ثلاثة أشهر على إجراء الانتخابات الرئاسية في إيران، إذ ستجري في 18 حزيران/يونيو المقبل، فإنَّ المشهد السياسيّ في الجمهوريّة الإسلاميّة لم يفرز مرشحين محتملين يحظون بكاريزما شعبية، وذلك بسبب حالة الانقسام التي تسود المعسكرين الرئيسيين الإصلاحيّ والأصوليّ.
كما تسود حالة من الترقب في انتظار إعلان شخصيات بارزة عزمها على الترشّح إلى الانتخابات، في حين ما تزال العديد من الأحزاب، بمختلف اتجاهاتها، تنتظر تشكيل ائتلافات كبيرة تتبنى رؤية سياسية تجتذب الناخبين.
حتى الآن، تشكَّلت بعض الاتئلافات الجزئية التي بدأت عمليات اختبار لمعرفة حدود أوزانها وثقلها لدى الرأي العام، وأيضاً قياس ردود الأفعال في أوساط النخب السياسية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، تصاعدت حدة المواجهة في استهداف الشخصيات والرموز التي من الممكن أن تتقدّم للترشح من هذه الكتلة أو تلك، إذ لم تتوقف الصحافة والمواقع الإلكترونية التابعة للقوى الإصلاحية عن النيل من مرشحين محتملين للتيار الأصولي، أمثال السيد محمد باقر قاليباف رئيس مجلس الشورى، والسيد إبراهيم رئيسي رئيس السلطة القضائية.
في الطّرف المقابل، لم تتردّد الصحافة الأصولية في إطلاق حملة تشكيك في أهلية بعض الشخصيات المحسوبة على الإصلاحيين، من قبيل السيد حسن خميني، الّذي لم يمارس سابقاً وظيفة حكومية، وبالتالي ينقصه جزء من شروط الترشيح الواردة في نص المادة 115 من الدستور، بأن يكون المرشّح "رجل سياسة، ومتشرعاً، وحائزاً على الشروط، إيرانياً وتابعاً لإيران، وذا تجربة في الإدارة وتدبير الأمور...".
كذلك، استغلَّت الصحافة الأصولية حالة الانقسام في المعسكر الإصلاحي، والتركيز على تمنع السياسي البارز محمد رضا عارف عن إعلان ترشحه، في وقت لم يتردّد في انتقاد قطاع من الإصلاحيين واتهامهم بأنهم لم يبلوروا بعد رؤية فكرية واضحة حيال المرحلة المقبلة.
وحتى الآن، أعلن كل من حسين دهقان وزير الدفاع السابق، وعلي مطهري السياسي والبرلماني المعروف، عن ترشحهما رسمياً إلى الانتخابات، إضافةً إلى إعلان حزب "اعتماد ملي" الإصلاحي عن ترشيح القيادي في الحزب محمد علي أفشاني، في حين قرر حزب "المؤتلفة" الإسلامي، وهو من أقدم الأحزاب الإسلامية في إيران، نيّته التقدّم بمرشح له إلى الرئاسة.
الأصوليون: الوحدة الشاملة هي الخيار الوحيد لخوض المنافسة
افترض الأصوليون في البداية أنَّ السيد قاليباف وإبراهيم رئيسي سيترشحان إلى الانتخابات الرئاسية. وبناءً على ذلك، انقسم أغلب الأحزاب الأصولية إلى قسمين:
الأول: تشكيل ائتلاف قوى الثورة لتقديم الدعم للمرشح إبراهيم رئيسي، والذي سرّب مقربون منه إشارات إلى أنه قد لا يشارك في الانتخابات، رغم أنه يشن حرباً شعواء على الفساد، ويواصل جولاته في المحافظات.
الثاني: مجلس الوحدة، ويضم 40 حزباً احتشد على أمل دعم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، الذي ما يزال متردداً، رغم أنه يقوم بجولات محلية، ويزيد عيار اللوم والتقريع لحكومة الرئيس روحاني.
أما جبهة "الثبات" (بايداري)، فهي تقف على تلة الأصوليين، وتنتظر ما ستسفر عنه رهانات ائتلاف قوى الثورة ومجلس الوحدة، وذلك لإعلان مرشحها المحتمل سعيد جليلي، بحسب تصريحات كوادر في الحزب للصحافة المحلية.
أما حزب "المؤتلفة" الإسلاميّ الذي بدأ يميل إلى يسار الوسيط في جبهة الأصوليين، فإنَّه اعتاد تقليدياً تقديم مرشّحه الخاص، وذلك بانتظار ما ستسفر عنه التعديلات في قانون الانتخابات، وما إذا سيتم اعتماد سن 75 عاماً كحد أقصى لعمر المرشح، لكي يدفع أمينه العام أسد الله بادمجيان لخوض الانتخابات الرئاسية.
وإزاء هذا التشرذم، ومع ضبابية مواقف بعض الشخصيات الأصولية من المشاركة في الانتخابات، سيصبح الوضع أكثر تعقيداً في المعسكر الأصولي كلَّما اقتربنا من موعد الانتخابات، وهو ما قد يفتح الباب أمام ظهور مستقلين، وآخرين مما بات يُعرف بالتيار الثالث، لتصدّر المشهد الانتخابي.
وإزاء هذا الوضع الحرج، أطلقت شخصيّات روحيّة في التيار الأصولي دعوات ملحة لحلّ كلّ من ائتلاف قوى الثورة ومجلس الوحدة والاندماج في جبهة عريضة تستقطب بقية الأحزاب الأصوليّة، ومن ثم اعتماد مرشّح رئيس، وآخر احتياط، وسوقهما نحو صدارة المشهد الانتخابي.
الإصلاحيون وأزمة الزعامة
على الرغم من الإشارة الَّتي وصلت إلى الإصلاحيين من مكتب مرشد الثورة السيد علي الخامنئي بأنَّ عليهم المشاركة وخوض الانتخابات بحرّية من أجل تحقيق التوازن، وأيضاً بغية تحقيق أوسع مشاركة شعبية في صناديق الاقتراع، فإنَّ المعسكر الإصلاحي يعاني أيضاً حالة تفكّك مع فشل محاولات عدة لتكوين ائتلاف جامع وشامل لهم.
قبل نحو شهرين، أعلن عن تشكيل ائتلاف "بناة التوافق" (نهاد اجماع ساز) بصفته الممثل للجبهة الإصلاحية في إيران. وقد عقد مؤتمره العام، واختار السياسي المخضرم بهزاد نبوي أميناً عاماً له، إلى جانب انتخاب مجلس شورى ومجلس استشاري يضمن أكثر من 15 شخصية إصلاحية بارزة.
ورغم أنَّ ائتلاف "بناة التوافق" يضمّ 31 حزباً وجمعية سياسية إصلاحية، فإنَّ العديد من الأحزاب داخل الائتلاف ما تزال تضع فاصلاً بينها وبين هذا الائتلاف، وذلك في سياق حالة التردّد وعدم حصول الإجماع الشامل في الجبهة الإصلاحية.
ويطمح حزب "كاركزاران سازندكي" (كوادر البناء) الّذي يقوده السيد محسن هاشمي، نجل الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، إلى تصدر الائتلاف، بعد أن تبنّى مواقف معتدلة في مؤتمره العام الأخير، وأكّد تمسّكه بثوابت الثورة، رافضاً وجود المتطرفين بين صفوفه.
وفي أحدث تصريح له، ألمح محسن هاشمي إلى أنّه سيترشّح إلى الانتخابات الرئاسية ما لم يتوافق الإصلاحيّون على شخصية لامعة وذات شعبية لخوض الانتخابات.
وتتداول الصّحافة الإصلاحيّة أسماء عدّة شخصيات يمكن التوافق بشأن أيّ منها ليكون مرشّح الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية. ويبرز من بين تلك الشخصيات حسن خميني، ومحمد رضا عارف، ومحمد جواد ظريف، وكرباسجي، ومحسن هاشمي.
وفيما يخيّم على قسم من المعسكر الإصلاحي هاجس رفض أهلية الترشيح من قبل مجلس صيانة الدستور، يطرح البعض خيار السيد علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق، كشخصية معتدلة يمكن أن يراهن الإصلاحيون عليها، غير أن جناح "يسار – اليسار" في معسكر الإصلاحيين يرفض فكرة "تأجير مرشح"، وذلك في إشارة إلى دعمهم للشيخ حسن روحاني الذي لم يكن إصلاحياً إلى النخاع، فضلاً عن أنَّ البعض، ومن بينهم السياسي محمد رضا عارف، يعتبرون تأييد الإصلاحيين للشيخ روحاني "من أكبر النكسات"، ويرون أنه "دليل على عدم وجود رؤية متكاملة لدى الجبهة الإصلاحية".
ويعتقد مراقبون أنّ انتقادات رضا عارف للإصلاحيين، وامتناعه عن حضور اجتماعات ائتلاف "بناة التوافق"، مؤشر على نيته تشكيل حزب أو تيار جديد، والترشح بصور منفصلة عن الإصلاحيين.
التيار الثالث يتربّص
في ضوء ما سبق، ومع حالة التشتّت وغياب الرؤية والقيادة في المعسكرين الإصلاحي والأصولي، بدأت الانتقادات تنهال بقسوة عليهما، إلى حد الاتهام بالشيخوخة ودخول مرحلة الألزهايمر، بعد فشلهما في إنتاج شخصيات كاريزمية تشعل التنافس في مسار الانتخابات الرئاسية.
يقول أحد الناقدين إنَّ كلا المعسكرين بلغ مرحلة الكهولة، ولم يعد بالإمكان الحديث عن جبهة إصلاحيّة وجبهة أصولية خالصتين، وإنّ المتغيّرات في كلا المعسكرين تستدعي إطلاق تقسيمات تعكس الواقع والحقائق السياسية والفكرية الجديدة.
ما نفهمه من هذا النّقد الصّارخ هو أنَّ الإصلاحي لم يعد إصلاحياً يسارياً خالصاً، وأنَّ هناك ألواناً متعددة في صفوف الإصلاحيين، بعضها يقترب من الوسط، وحتى يمين الوسط، والحالة كذلك في الجبهة الأصولية التي بدأت بعض الأجنحة فيها تميل بقوة إلى الوسط والاعتدال وإلى يسار الوسط.
ولكن من نظرة أوسع، يظهر أن هذا التنوع والتغير في الاتجاه السياسي دليل حيوية وإيجابية سياسية تفتح الباب أمام إنتاج تيارات جديدة تقدم رؤية ثالثة غير الإصلاح اليساري والأصولي اليميني.
الكلام عن التيار الثالث خرج عن التنظير، وبات حديث الصّحافة والندوات السياسيّة، إذ ينظر إلى الرئيس السابق السيّد أحمدي نجاد باعتباره أول من فتح باب التيار الثالث، والذي لن يكون وسطياً بالضرورة، وربما تتخلله اتجاهات أخرى نحو اليمين واليسار.
أيضاً، يستقرئ البعض في تمرّد محمد رضا عارف وأنصاره على التيار الإصلاحيّ نزعة نحو تشكيل منهج جديد في المرحلة المقبلة. وقد صار متاحاً للتقليديين في المعسكرين الإصلاحي والأصولي الحديث عن الاعتدال، من قبيل طرح فكرة تبني علي لاريجاني أو محمد جواد ظريف (اللامنتمي) كمرشحين في الانتخابات المقبلة، إلا أنَّ اللافت في خيارات التيار الثالث هو التوجّه نحو ترشيح عسكريين أو عسكريين سابقين تحت عنوان "مستقلين"، وذلك في استثمار لحالة الجمود في المعسكرين الإصلاحيّ والأصوليّ.
ويعتبر ترشّح العميد حسين دهقان واحتمال ترشح العميد سعيد محمد باكورة هذا المتغير الذي يُعتَقَد أنه لم يأتِ اعتباطاً، وإنما هو استجابة لرغبة قطاع من الناخبين، سئم ثنائية اللعبة السياسية التي لم تؤدِّ إلى معاجلة الأزمة مع الخارج، في حين نجح العسكر، ولا سيما حرس الثورة، في تحقيق إنجازات مدنية واقتصادية، بالتوازي مع بناء ترسانة تسليحية حمت البلد في أزمات عديدة، وفق ما يقول أنصار هذا الاتجاه.