ما بين الإصلاحي والمحافظ.. تنافس على آليات حفظ الثورة الإسلامية
كما هو الحال منذ أكثر من 40 عاماً، ستبقى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في موقعها المناهض لمشاريع الغرب التوسعية والرافض أي محاولة للتأثير في توجهات شعبها ونظامها.
في تاريخ لم يتعدَ مهلة 50 يوماً تنصّ عليها المادة 131 من الدستور الإيراني، نجحت الجمهورية الإسلامية في تنظيم انتخابات رئاسية لاختيار بديل من الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي الذي استشهد نتيجة سقوط طائرته في إقليم أذربيجان الإيراني في 19 أيار 2024.
بطبيعة الحال، كان من الممكن ألا تُثير نتيجة الانتخابات التي فاز فيها المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان أي تساؤل لولا ظهور إيحاءات غربية توحي بإمكان حدوث تحول على مستوى الواقع الإيراني انطلاقاً من التسويق للرئيس المنتخب على أنه سيقود انعطافة حادة على مستوى سياسات إيران الخارجية أو الداخلية.
وبناءً عليه، يصبح من الضروري البحث في مدى حدود التحول الذي يمكن أن يشكله وصول رئيس من اتجاه معين، أكان إصلاحياً أم محافظاً، من تغيير على مستوى سياسات الدولة التي حافظت على توجهاتها العقائدية منذ انتصار ثورتها عام 1979.
في هذا الإطار، لم يكن ظهور التيارات الإصلاحية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمراً مفاجئاً أو غير طبيعي، إذ إن طبيعة النظام الذي يحتوي على عدد غير قليل من المؤسسات التي تتقاسم السلطة فيه كانت تفترض ظهوراً حتمياً لتعدد الأفكار والآراء في داخله؛ فإذا تخطينا المجالس التي يتم اختيار عدد من أعضائها من قبل الولي الفقيه كمجلس الخبراء، والتي أظهر الواقع أنها لا تدلل على استنسابية تتحكم فيها مزاجية الولي الفقيه، إذ يخضع فيها اختياره لمحددات أخرى تتمحور حول كيفية الموازنة بين الاتجاهات الفكرية المختلفة والمصلحة العليا للدولة، فإن المجالس التي يتم اختيار أعضائها بطريقة الانتخاب، كحال مجلس الشورى الإيراني أو رئاسة الجمهورية مثلاً، كانت تفترض حتماً ظهور تيارات مختلفة تتنافس فيما بينها وفق برامج انتخابية أثبتت التجربة أنها لم تخرج يوماً عن مبادئ المؤسس الإمام الخميني وتوجهاته.
وبناء عليه، ظهرت مؤسسة ولاية الفقيه بقيادة المرشد كحارس مهمته الحفاظ على مكتسبات الثورة وضمان عدم جنوح السلطات الحاكمة عن الأسس التي أضحت بمنزلة دستور حاكم لسلوك من يتولون القيادة.
لذلك، لم يكن واقع الانقسام السياسي بين محافظ وإصلاحي مرتبطاً يوماً بالموقف من الولي الفقيه، إذ إنَّ التسويق لفكرة أن المحافظين هم الداعمون للولي الفقيه في مواجهة معارضة الإصلاحيين له لا تعبّر أبداً عن الواقع في إيران.
كلا الطرفين يؤكد التوأمة بين الولي الفقيه والنظام، إذ يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى الرسالة الشهيرة التي أرسلها الرئيس السابق خاتمي إلى الولي الفقيه، والتي أكد فيها ولاء الإصلاحيين للمرشد الإيراني وجهودهم في الحفاظ على النظام.
وبالعودة إلى تجربة غير بعيدة يمكن اعتبارها مثالاً واضحاً على التعايش بين الولي الفقيه وبين رئيس إصلاحي، تبرز فترة الرئيس الأسبق إبراهيم روحاني لتؤكد أن العلاقة بين الطرفين لم تكن تعبر عن تعارض عقائدي يرتبط بجوهر النظام الإيراني، إنما كانت تعبر عن تعارض في الأفكار والتوجهات التي تخدم مصلحة الدولة العليا.
خلال اللقاء الأخير للإمام الخامنئي بحكومة الرئيس روحاني، لم يخرج الإمام في تقييمه أداء الحكومة عن المعايير المهنية، إذ إنه لم يتّهمها بالخيانة أو التواطؤ على حساب مصالح الدولة، إنما انطلق في تقييمه من رؤيته العقائدية التي تفترض أن ربط مصالح الدولة بالاتفاق مع الغرب والولايات المتحدة لن يؤدي إلا إلى الفشل.
وإذا كان قد ألمح في أكثر من مكان إلى عدم نجاح تلك الحكومة في الحفاظ على حقوق الدولة ومصالحها من خلال توجهها إلى ربطها بالاتفاق مع الغرب، فإنه في المقابل أثنى على جهودها في الداخل وعلى جهود فريق المفاوضين الإيرانيين في الاتفاق النووي بما يدلل على اقتناعه بالتزامهم المطلق بحقوق الدولة والشعب الإيراني.
في إطار آخر، لم تشكل حكومة الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي نقيضاً مطلقاً للحكومة التي سبقتها، إذ إنها لم تتخلَّ عن المسار التفاوضي مع الولايات المتحدة والغرب.
وعلى الرغم من تأخره في تعيين فريقه التفاوضي أكثر من 3 أشهر وإعلانه أنه لا يستعجل التفاوض مع الولايات المتحدة، عاد الرئيس رئيسي ليقود الجولة السابعة من المفاوضات مع الولايات المتحدة.
وبالتالي، وعلى اعتبار أن التفاوض مع الغرب لا يعبر فقط عن توجه الرئيس وفريقه، إنما يرتبط بالدولة بسلطاتها المختلفة، فإن التغيير الذي قاده الرئيس الشهيد ارتبط فقط باستراتيجية التفاوض وأهدافه.
وبناء عليه، يمكن التقدير أن التحول في المزاج الإيراني لناحية تفضيل رئيس إصلاحي على حساب محافظ لن يؤدي إلى تحول جوهري في شكل النظام وكيفية إدارة الدولة؛ فمن خلال اختيار الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان، الذي أثيرت حوله الكثير من التحليلات لناحية تعارضه مع فكر الولي الفقيه وإمكانية انقلابه عليه، لمرقد الإمام الخميني ليكون أول منصة لأول خطاب له في السلطة، يمكن لمس إصراره على تأكيد ولائه وعهده لمبادئ الجمهورية الإسلامية في إيران.
ومن خلال شكره "القائد المفدى للبلاد (الإمام الخامنئي)" والإشارة إلى حكمة الأخير بالتوازي مع تأكيده أن تحسين العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة لن يتم إلا على أساس الأركان الثلاثة المتمثلة بالعزة والحكمة والمصلحة، من دون أن ننسى قيامه سابقاً عام 2019 بإلزام النظام الإيراني، بوصفه نائباً، باتخاذ إجراءات لإقرار تعزيز موقع الحرس الثوري ضد الولايات المتحدة حين صنفته في لوائح الإرهاب، يمكن التقدير أن الواقع الإيراني لن يتغير في المرحلة القادمة، فالحكومات الإصلاحية أكدت أن الالتزام بالنظام والعقيدة وأسس الثورة أمر نهائي لا رجعة عنه.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت التدخل في شؤون عدد غير قليل من الدول وتسخير العديد منها من خلال العمل على زرع شخصيات تخدم مشروعها في المفاصل الأساسية لتلك الدول، فإن الواقع الإيراني لناحية بناء الدولة وفق نظم مؤسساتية يشكل رأس الهرم الإداري فيها دستوراً واضح المعالم وقادراً على ضبط توجهات السلطة وفق أسس عقائدية أرساها المؤسس وتكفلت مؤسسات النظام بالحد من تجاوزها من قبل أي سلطة فيها، أظهر مناعة مطلقة في وجه هذا التدخل.
وبناء عليه، يمكن القول إن وصول رئيس إصلاحي كبزشكيان في هذه المرحلة أو غيره في مراحل لاحقة، لن يشكل رافعة أو مدخلاً لتنفيذ أي مشروع دخيل على الجمهورية الإسلامية.
وبالتالي، كما هو الحال منذ أكثر من 40 عاماً، ستبقى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في موقعها المناهض لمشاريع الغرب التوسعية والرافض أي محاولة للتأثير في توجهات شعبها ونظامها.