البوصلة والطريق الثوري
جمعتني بأنيس النقاش في العام 2011 جلسات كان يحدثني فيها عن السجن في فرنسا، فيما كنت أحدّثه عن السجن في الأراضي المحتلة.
حين انضمَّ المناضل والمفكّر الثوري العربي - الإسلامي أنيس نقاش في بيروت إلى الكتيبة الطلابية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" بعد العدوان الصهيوني في حزيران/يونيو 1967، كان قد حدد البوصلة المركزية التي وضع وجهتها أمام عينيه وفي دربه، وهي فلسطين، أسمى هدف وأعدل قضيّة تحرر في العالم، ومواجهة "إسرائيل"؛ قاعدة القوى الاستعمارية الكبرى في العالم.
وحين أصبح أنيس في ذلك الوقت فدائياً، وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، في جناح العمل الفدائي السري بقيادة أبو جهاد الوزير، مسؤول هذه المهام داخل الأراضي المحتلة، فقد اختار طريقه لتحقيق هذا الهدف، وكان يتمثل بالمقاومة المسلّحة على شكل العمل الفدائي.
هكذا كانت بدايته التي استمرّت بهذا الجوهر والمضمون نفسه حين ربط اتجاه بوصلته بالطريق الثوري لتحقيق الهدف المقدس، وانسجم مع القدر الذي آمن به وسلَّم واستعدّ بكل ما لديه من تصميم ووعي وشجاعة للتمسك به وبكل ما يرتبط به وبدفع ما يفرضه من تضحية وفداء.
وعبر مسالك هذا الدرب، لم يتوقف منذ بداية انضمامه إلى الكتيبة الطلابية في حركة "فتح" عن التمعن في كل ما يحيط به في هذا الإطار الذي أصبح جزءاً منه، وعن مقارنة مدى تطابق ما يراه ويعيشه فيه مع ما تشكّل في عقله وتصوّره لمعنى العمل الفدائي وطبيعة شفافيته.
كان باختصار شديد، وحتى في تلك البداية، لا يقبل الحلول الوسط، ولو كانت جزءاً من موضوعية التفكير وحسابات الظروف، وهو ما جعله لا يقبل إلا بعدم تفويت أي فرصة لضرب العدو، فقد كان في طبيعته يفضل الإقدام على التنفيذ وفق حساباته، لا وفق حسابات قد يراها صاحب القرار في هذا الشأن ضرورية وتستدعي الانتظار، كما لم يكن يرى ضرورة أن تلجأ أي منظمة مقاومة إلى العمل البيروقراطي، وهو ما يفسر انضمامه إلى جناح وديع حداد، مسؤول العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمختص في إعداد العمليات النوعية.
وبعد انضمامه إلى هذه المحطة، وتحت قيادة وديع حداد، أثبت أن هذا المنهج هو الذي حقق التطابق بين البوصلة والطريق لتحقيق الهدف، عندما نفّذ مع بقية رفاقه بجدارة ونجاح أعقد العمليات الفدائية في فيينا في العام 1975، وسيطر مع مجموعته على اجتماع لمنظمة "أوبيك"، وحوَّل وزير النفط السعودي إلى رهينة في أيدي هذه المجموعة الفدائية التي فرضت شروطها على الجميع في النهاية.
هذا في واقع الأمر ما استنتجته من حديث جرى بيننا في أنقرة في العام 2011، يوم كنا مع مجموعة من اللبنانيين والسوريين والأتراك اليساريين نشارك في مؤتمر أعده رئيس اتحاد الأدباء الأتراك غوخان جينكيز خان في مقرّ الاتحاد في أنقرة، للدفاع عن سوريا في مواجهة الحرب الكونية. وقد استضاف فيه الجميع، في ظلّ اشتداد حملة إردوغان على سوريا وتبنّيه المسلّحين الذين استهدفوها من حدود تركيا نفسها ومعارضاتهم المتنوعة.
وكان من بين المشاركين، إضافةً إلى اتحاد الأدباء والكتاب الأتراك ورئيسه، معظم المعارضين الأتراك لسياسة إردوغان ضد سوريا، ومنهم شخصيات تركية يسارية ومن حزب الشعوب الديموقراطي، وفي مقدمتهم بركات قار، مسؤول لجنة العلاقات الخارجية في الحزب والرفيق المشترك لأنيس ولي.
كان من الطَّبيعي أن يكون أنيس نقاش في طليعة المشاركين في هذا المؤتمر، رغم ما تحمله هذه المشاركة من خطر أن يتعرَّضوا - وهو في مقدمتهم - للاعتقال من قبل أجهزة الأمن التركية، التي رأت بأعين رجالها وأعين المسلحين الذين تتبناهم كيف رفع المشاركون أعلام سوريا وصور الرئيس الدكتور بشار الأسد في مقر الندوة في مكتب اتحاد الأدباء الأتراك في ساحة أنقرة، عاصمة إردوغان، وكيف عبروا عن مواقفهم في الدفاع عن سوريا في مداخلاتهم وأطروحاتهم وفي المقابلات التي أجرتها معهم وسائل إعلام وفضائيات سوريّة وتركيّة.
كان أنيس في أوج طاقته وهو يتحرك في قلب عاصمة جبهة معادية لسوريا وقيادتها. وقد قدم خطاباً سياسياً ثورياً في الندوة ورسائل إعلامية واضحة المضمون كعادته، ومن دون أي حساب لما تشكله قيادة أنقرة من خطر أو قيادة المعارضة والمسلحون الذين تبنتهم السلطات التركية.
وفي اليوم الثاني لوجود كلّ هذا الحشد الذي يمثّل سوريا وفلسطين والثوريين الأتراك، استمر دور المشاركين في عرض المداخلات ومخاطبة وسائل الإعلام. وعند المساء، جمعتني بأنيس في ذلك العام 2011 جلسات كان يحدثني فيها عن السجن في فرنسا، فيما كنت أحدّثه عن السجن في الأراضي المحتلة. وتبيّن مما سرده لي أنه كان أول من قام بإضراب عن الطعام لأشهر مستمرة ضد سجانه، ولم يكن مثل هذا الإضراب الذي جرى في السبعينيات داخل سجون الاحتلال على جدول عملنا، نحن الأسرى في فلسطين المحتلة، بهذا الشكل والفترة الطويلة.
وقد تمكَّن أنيس في النّهاية من فرض شروطه على السجّان الفرنسي، ونال حريته التي انتزعها بمواجهة فرنسا في صراع بين الحياة والموت، وخصوصاً حين كان يسرد كيف كانوا يحيطون جسده بأنابيب التغذية الطبية طوال تلك الأشهر، وكان يظلّ يصرّ على استمرار إضرابه من دون أيّ تردّد أو ضعف، فقد كان جسده في أدنى مقاييس الحياة، لكنَّ روحه وإيمانه كانا يتحوّلان داخل هذا الجسد إلى قوة لا نظير لها في بثّ قدرته على الصمود واستمرار التحدي. وقد وصف لي كيف كان شعوره فريداً من نوعه حين استسلم الفرنسيّون لشروطه، فانبعثت في ذلك الجسد قوة إضافية، بل جرعة كبيرة من نشوة الانتصار.
كان أنيس بموجب مسيرته النضالية يجسّد بشخصيّته وطبيعة تفكيره التزامه بالبوصلة والطريق الثوري الَّذي يتطابق مع عدالة وقدسية الهدف، ويضع كلّ تجربته وما يحيط به من علاقات وارتباطات في ميزان حساس لا نظير لدقّته.
وبعد التقييم، يتّخذ قراره من دون أي تردد، ويتجه نحو ما يخدم هذا الهدف بثقة وإيمان، وهو ما فعله حين وضع في ميزانه الثورة الَّتي انتصر فيها الشّعب الإيراني بقيادة الإمام الثوري الراحل الخميني، وهزم فيها واشنطن وتل أبيب معاً، فاتخذ قراره بالانضمام إلى هذه القاعدة الثورية ضدّ الصهيونية والإمبريالية العالمية، واستعد لأيّ عمل فدائيّ يحافظ بواسطته على هدفها وقدراتها وحصانتها.
لذلك، انتقل إلى ما يمكن تسميته بالمحطة أو المرحلة الثالثة من مسيرته الثورية، ليجد فيها البوصلة والهدف والطريق نفسه، لأنَّ الثورة الإسلامية الإيرانية عبّرت عن هذه المقولات الثلاث، وتعهّدت بالسير على دربها، وارتبطت عضوياً ووجودياً بما تطلّبه من سياسات ومواقف لم تنحرف عنها، فكان انتقاله إليها منذ بدايتها صائباً، وكان ميزانه دقيقاً في قياس نتائجها.
كان يصمّم دوماً على تجنيد أقصى ما يمكن من قدراته وتجاربه المتراكمة منذ العام 1967 في أكثر المهام فاعلية وتأثيراً، مهما كانت تتطلّب من روح الفداء والتضحية، فلا صعاب ولا مستحيل يقف أمامه حين يبلغ تلك الدرجة من بعد النظر وسعة الأفق، وخصوصاً حين أدرك أنّ ما شكّله انتصار الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعدّ حلقة مركزية سترسم مسيرة بوصلته وهدفها وشكل تحالفاتها العربية والإسلامية، وسيستحيل التغلّب عليها أو هزيمتها.
وقد أصبح استنتاجه هذا نبوءة مجسدة أمام عقول وأعين الأصدقاء والأعداء طوال 42 عاماً مستمرة لهذه الثورة الإسلامية الإيرانية التي تزداد قوةً، رغم كل الحروب والمجابهات التي تعرّضت لها طوال تلك الفترة وما تزال تتعرض لها.
قال لي ذات مرة: لقد تأخر الجميع عن رؤية قيمة القدس في الثورة الفلسطينية، إلى أن اكتشف الإمام الراحل الخميني قيمتها، فأعلن يوم القدس العالمي، وكأنه يصدر منشوراً عالمياً يقول فيه: "يا أبناء أمة محمد، اتحدوا لتحرير القدس"، وهو ما جعل لقضية فلسطين والقدس أكبر حشد في تاريخ هذه الأمة وأرهب أعداءها.
كان أنيس يجمع في جبهته المعادية للصهيونية والإمبريالية كل من يناهض أهدافها ومخططاتها، مهما بلغ التنوع في هذه التيارات. كان همه أن يحشد ويجنّد أكبر عدد في جبهة التصدي للصهيونية والإمبريالية، وخصوصاً حين يجد قاسماً مشتركاً يحمله بهذه الطريقة أو تلك أيّ تيار سياسي أو رسمي في هذا العالم. لذلك، تمتّع بمقاييس القائد القادر على جمع أكبر الحشود في جبهة نضاله وجهاده من أجل تحقيق هدفه المقدس: هدفنا. لذلك، كان يتمنّى أن يجد في الكثيرين من رفاقه وأنصار فكره قادة إلى جانبه.