هكذا أنهى المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت نفسه

في ظل المعرفة الوثيقة للقاضي فادي صوان بالنظام اللبناني كان يفترض أنه يعرف أن هناك أربعة عوامل على الأقل يمكن أن تُفشله.

  • على مستوى الثغر القضائية، أخطاء بالجملة في التحقيق بانفجار مرفأ بيروت.
    على مستوى الثغر القضائية، أخطاء بالجملة في التحقيق بانفجار مرفأ بيروت.

حتى عام 2005، كان القاضي فادي صوان يُحسب على النائب ميشال المر، ومع ذلك لم يتم وضعه أبداً في خانة القضاة المحسوبين على المر؛ أولئك الذين ارتبطت مسيرتهم بأبشع أنواع الفساد الوقح؛ لقد كان الرجل مع المر في تلك المرحلة لكنه لم يكن من أزلامه. 

أما بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري فواجهته مشكلة، يقول أحد المقربين منه إنه أعلمهم بتدخل الرئيس نبيه بري لحلها؛ لكنه لم يتحول مع ذلك إلى المحسوبين على بري. 

ورغم أن رئيس جهاز فرع المعلومات السابق وسام الحسن قد خصه دون غيره من القضاة بهاتف "رباعي" للدلالة على علاقتهما الوثيقة فإنه لم يصنف أيضاً في خانة "قضاة فرع المعلومات". 

هو كان مقرباً أو محباً للوزير الكتائبي السابق بيار الجميل قبل اغتياله، لكنه لم يكن كتائبياً بالمعنى الحزبيّ. وهو من دون شك تغير كثيراً بعد اغتيال الجميل ثم اغتيال الحسن، فازداد راديكالية مسيحية. راديكالية غدت غاضبة بعيد استثنائه من المواقع العليا في التشكيلات القضائية، فلم تعد توفر أحداً، رغم معرفته طبعاً بأن جدران المحكمة العسكرية تتميز بقدرتها على السمع. 

صوان حصل على فرصة العمر لتتويج مسيرة قضائية وفتح أبواب جانبية كبيرة لصديقه رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، الذي كان له الفضل الرئيسي بتعيينه محققاً عدلياً. فها هو الملف الأدسم في تاريخ الجمهورية يوضع بين يديه، في قضية تلقى التفافاً شعبياً واسعاً جداً وعابراً للاصطفاف السياسي والطائفي والمحسوبيات. 

وفي ظل معرفة صوان الوثيقة بالنظام اللبناني كان يفترض أنه يعرف أن هناك أربعة عوامل على الأقل يمكن أن تُفشله: 

أولاً، تسييس الملف بحيث ينتقل في اتهامه من "كلهم يعني كلهم" إلى "واحد منهم فقط"، حيث بات واضحاً أن العدالة الانتقائية لا تحقق مبتغاها وتسقط فكرة العدالة.

ثانياً، الثغرات القضائية التي لطالما استفاد منها الفاسدون للنأي بأنفسهم عن أية محاسبة. وكان عليه بالتالي أن يتخذ كل الخطوات الاستباقية لتجنب أية أخطاء قانونية تسمح بالطعن أو التشكيك أو الهروب.  

ثالثاً، الانشغال عن أساس الموضوع بتفصيل من هنا وآخر من هناك. 

رابعاً، الخضوع للضغط الإعلامي بكل التيارات التي تتجاذبه وشبكات المصالح التي تقف خلفه. 

أما الأخطر فهو الخضوع للأهواء الشخصية، والانشغال عن تصفية الحساب الوطني الكبير مع هذه الجريمة المروعة بتصفية الحسابات الشخصية الصغيرة.

بناء على هذا كله؛ ماذا فعل صوّان؟

على مستوى التسييس، أنهى صوان نفسه بنفسه حين استثنى على نحو مستفز فعلاً فريقاً سياسياً عريضاً كان يمسك بمفاصل أساسية في السلطات التنفيذية والإجرائية والإدارية والأمنية والقضائية منذ وصول نيترات الأمونيوم إلى المرفأ و... حتى اليوم. فهو اندفع لتصفية حسابات سياسية بدا واضحاً أنها شخصية، ولها علاقة مباشرة وغير مباشرة بعدم تعيينه "مفوض حكومة" لدى المحكمة العسكرية.  

ويكفي في هذا السياق القول إن صوان ذهب أبعد مما يريد فرع المعلومات نفسه حين اختلف معه بشأن خلاصته السياسية لأنه يريد الذهاب أبعد مما أراد الأخير. ورغم إجماع الأفرقاء اللبنانيين على المهنية الكبيرة لفرع المعلومات حين يتعلق الأمر بالجانب التقني فإن صوان آثر إنهاء علاقته التاريخية الوطيدة به لمجرد أنه أراد منه الذهاب أبعد. 

بدا واضحاً بعد ادعائه على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب أنه يفتح معركة سياسية لا يريد أحد من السياسيين فتحها، خصوصاً الرئيس سعد الحريري الذي سارع إلى تأمين غطاء سياسي ومذهبي لم يكن يحلم به دياب.

وعلى الطريق السياسية، وقع صوان بمجموعة أخطاء كرفعه لائحة غير رسمية لمن ينوي الادعاء عليهم تضُمهم "كلهم يعني كلهم" تقريباً، وإذ باللائحة الرسمية تسقط غالبيتهم وتبقي فريقاً سياسياً واحداً منهم. 

المحقق العدلي معجب بقنوات تلفزيونية دون غيرها كما يبدو، وهو كان مشغولاً في اليوم الذي تلا التفجير فلم يسمع رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب وهو القائد العام للقوات المسلحة الأميركية يؤكد في مؤتمر صحافيّ في 5 آب/أغسطس 2020 أن انفجار المرفأ "هو اعتداء عسكري على لبنان، وأن في الأمر قنبلة" كما أكد له كبار جنرالاته. هل يمكن لمحقق أن يحقق في تفجير مماثل دون الطلب الرسمي من السفارة الأميركية في بيروت أن تضع بمتناوله ما يؤكد ادعاءات رئيس بلادها أو تصدر تكذيباً له؟ 

الحسابات السياسية حالت دون استدعاء صوان للسفيرة الأميركية. الحسابات السياسية حالت أيضاً دون السؤال عمن يستفيد من تفجير مرفأ بيروت أكثر من المرافئ الإسرائيلية؟ والمشكلة أنه لم يكتف بتحييد هؤلاء، إنما سعى باتهاماته إلى تحويل الأنظار نحو فريق سياسي آخر، دون غيره.

على مستوى الثغرات القضائية، أخطاء بالجملة. ففي غياب ادعاء رسمي من النيابة العامة الاستئنافية أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت في جريمة المرفأ؛ لا يمكن إحالة الدعوى غير الموجودة على المجلس العدلي. هذه ليست وجهة نظر أو تفصيل أو تحليل إنما رأي قانوني يستند عليه المحامي محمد مغربي ليؤكد أن الإحالة إلى المجلس العدلي غير قانونية من أساسها، وكل ما بُني على باطل هو باطل من أساسه. 

هنا كان يفترض بصوان أن يتنبه لهذه الثغرة الكبيرة التي تسمح بالطعن في الإحالة وبتعيينه، لكنه لم يستدرك الموضوع. ولاحقاً كان يفترض أن يعلم صوان أن المجلس العدلي موجود للتحقيق في الجرائم المرتكبة ضد أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، حيث يفصّل قانون العقوبات معنى "الجريمة" بأنها خيانة أو تجسس أو النيل من هيبة الدولة، أو الإرهاب... دون أن يشمل هذا كله "الإهمال الوظيفي". لكنه ركز على الإهمال الوظيفي وترك كل شيء آخر. مع العلم أن قانون العقوبات الخاص في المجلس العدلي لا يلحظ "الإهمال الوظيفي".

وعليه، حتى في حال تمكن صوان من تثبيت اتهاماته لدياب والوزراء بالتقصير الوظيفي فإنه لا يوجد عقوبة يمكن أن تصدر بحقهم، وهو ما يؤكد أنه انجر إلى معركة هدفها معنوي سياسي بعيداً من العدالة والمحاسبة. 

ولمزيد من الثغرات، عمد صوان إلى مراسلة المجلس النيابي لاستئذانه بملاحقة النواب والوزراء السابقين ثم قال إن صلاحياته تتجاوز كل الحصانات. 

ورغم معرفته بأن نقابة المحامين لا يمكن أن ترد له طلب استدعاء أحد المحامين، لم يطلب أذن النقابة أيضاً. وتطول هنا القائمة في ظل مراسلات تتحدث عن متورطين مفترضين لم يتم استدعاؤهم للاستماع إلى شهاداتهم على الأقه، خصوصاً أن الكثير من القضاة والضباط كانوا كما الوزراء والرؤساء على علم بوجود النيترات وخطرها، ويشكل تجاهلهم لها إهمالاً وظيفياً كبيراً، في ظل تأكيد المطلعين أن صوان أكد لمراجع قضائية أن أحد الوزراء "ليس عليه شيء" لأنه كان على خصومة مع من يفترض به مراسلته فلم يراسله، وإذ به بعد أقل من 48 ساعة يضم هذا الوزير إلى قائمة المُدعى عليهم.

على المستوى الثالث؛ انشغل صوان بـ "إهمال" حسان دياب وثلاثة وزراء لوظيفتهم. شغله هذا التفصيل عن كل شيء آخر. تخيلوا أنه لم يحدد بعد ما إذا كان وصول نيترات الأمنيوم إلى مرفأ بيروت وبقائها كل هذا الوقت هو قضاء وقدر أو عملية منظمة عن سابق تصور وتصميم. صفر تحقيقات على هذا الصعيد. وصفر تحقيقات على صعيد التأكيد أو النفي ما إذا كانت الكمية التي انفجرت هي نفسها الكمية التي أفرغت من الباخرة أو أخرجت سابقاً أو لاحقاً بعض الكميات، ومن أخرجها وكيف؟ وكذلك الأمر صفر تحقيقات أيضاً على صعيد تقرير الأدلة الجنائية forensic القائم على تحليل آثار الانفجار أو التفجير.

نحن أمام قاضي يقفز إلى الخلاصات قبل أن يحدد في السطر الأول ما إذا كنا قد شهدنا انفجاراً أو تفجيراً! بدوره، يقول المحامي مغربي إن المحقق العدلي تجاهل بديهيات البديهيات مثل التحقيق لتحديد الوصف الجرمي: هل هو حادث تلقائي على سبيل القضاء والقدر، وبالتالي ما من فعل جرمي، أو هو اعتداء داخلي على أمن الدولة في صورة عمل إرهابي، أو اعتداء خارجي على البلد بفعل قنبلة أو صاروخ؟ 

على المستوى الرابع، وقع صوان ضحية الشعبوية التلفزيونية التي لا تدوم أكثر من 24 ساعة، فاعتقد أنه سيتحول إلى بطل شعبي لمجرد اتهام فلان وفلان من الوزراء المسيسين بالتقصير في واجباتهم، وهو ما تعرفه وتؤكده وتحسمه أكثرية الشعب اللبناني ولا تحتاج إلى قاض ليخبرها به، فيما البطولة تقتضي خارطة تفصيلية تحدد جميع المسؤوليات منذ شراء النيترات إلى ما بعد العبث (أو عدم العبث) بمسرح الجريمة. 

صوان أضاع فرصة كبيرة عبر هذه الإخفاقات الأربعة؛ لكنه لم يضيع فرصته لوحده إنما هو "يورط" معه رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود الذي كان له الفضل الرئيسي والأوحد بتعيينه محققاً عدلياً، قبل أن يضع كل مقدرات مجلسه بتصرف صوان، وكان يفترض بعبود أن يساعد صديقه في قيادة تحقيق قضائي شفاف وسط الألغام الكثيرة، ليربحا معركة الرأي العام العابر للمناطق والطوائف والاصطفاف السياسي، لكنهما آثرا الغرق مع بعض في الثغرات القانونية والتسييس والشعبوية الافتراضية التي تنتهي بانتهاء مقدمات نشرات الأخبار.

هكذا أنهى صوان نفسه بنفسه وسينتهي معه التحقيق العدلي في جريمة المرفأ.