الشهيد فخري زاده وحلّ الاغتيالات الذي لا ينفع
الإسرائيلي يعتبر أن عتبته العالية في المنطقة تنطلق من التفوّق العلمي، ويعتقد واهماً أن التخلّص من الحالات الفرديّة كفيلٌ بترجيح الكفّة لصالحه.
عندما بلغت الثورة الفلسطينية أوجها، وعندما صعد المشروع القومي العربي القائم على مبدأ التنمية المستقلة، وتطوير البحث العلمي كأساسٍ للتقدّم، ارتكزت السياسة الإسرائيلية على تنويع عمليات الإغتيال في سبيل تجفيف المحيط العربي من الرموز، ولم تكن الرموز المستهدفة مختصرةً في الإطار العلمي، فاغتيالات غسان كنفاني وأبوعلي مصطفى ووديع حدّاد والمصري جمال حمدان، جميعها تصبّ في نفس الهدف من اغتيال محمد الزواري، ويحيى المشد، ونبيل فليفل وسمير نجيب، فالعقدة الإسرائيلية تكمن في الرموز التعبويّة والتنمويّة، في الميدان أو السياسة أو الأدب أو التاريخ (كشف المرويّات التوراتية المزوّرة) أو العلم، الذي يرفع عتبة المواجهة لصالح المحيط ضد "إسرائيل".
بالرغم من اغتيال "إسرائيل" لهذه الرموز الكبيرة بواسطة السمّ أو القنابل المغناطيسية اللاّصقة أو استئجار الشبكات الإرهابية، إلا أنها لم تتمكن عبر الاغتيال من تجفيف المحيط العربي من أيقوناته. إنّ تراجع الحالة العربية تعود لأسبابٍ متعددة لا تمثّل فيها عمليات الاغتيال الإسرائيلية الوزن الأثقل للمشكلة، وإن كانت واحدةً من مسبّباتها، والسؤال المطروح اليوم: هل يمكن لهذه السياسة أن تنجح مع إيران؟
قبل أن تجلس إيران لتوقيع الإتفاق النووي الإيراني، وترفع مستوى التخصيب بعد الإنسحاب الأميركي منه، كانت قد خسرت 4 علماء نووّيين من الصفّ الأوّل؛ مسعود محمدي، ومجيد شهرياري، وداريوش نجاد، ومصطفى روشن.
ومع الأهمية العلمية الإستراتيجية للعلماء الشهداء، وحجم الخسارة الكبيرة بغيابهم، إلا أن المشروع النووي واصلَ عمله، وواصلَ تقدّمه، ففي بلدٍ تضخّمت فيه البحوث العلمية، كمّاً ونوعاً، وقفزت نسب الإقتباسات العلمية (citation index) عشرات المراتب خلال الـ 35 سنة الماضية، لا تعتمد مراكز البحوث على حالةٍ منفردة، وإن كانت هذه الحالة استثنائية ولامعة، إيران ببساطة لا تعاني أزمة النُّدرة هذه، التي تعانيها "إسرائيل". إن ثمن اشتعال حرب اغتيالاتٍ للعلماء مثلاً، سيكون باهظاً على "إسرائيل" أكثر في ظلّ محدوديّة مواردها البشرية أساساً.
الموساد يتابع الحالات العلمية المتقدّمة في مجالات العلوم الطبيعية في المنطقة، ويحاول تصفيتها، (بما فيهم خرّيجي التخصّصات الدّقيقة والحسّاسة في الجامعات الغربية، والذين يصرّون على العودة إلى بلدانهم، أو المتفوّقين في مراحل الدراسة الجامعية الذين تُثبت انتماءاتهم المعادية لـ"إسرائيل").
الإسرائيلي يعتبر أن عتبته العالية في المنطقة تنطلق من التفوّق العلمي، ويعتقد واهماً أن التخلّص من الحالات الفرديّة كفيلٌ بترجيح الكفّة لصالحه.
لو فكّر الإسرائيلي بمنطق تيار (العقل البارد) في الولايات المتحدة، لوصل إلى نفس الاستنتاج : "العنف لا ينفع مع إيران". لقد تبنّى التيار المتشدّد خيار الضربة العسكرية، وكبحت المؤسسة السياسية في الولايات المتحدة تنفيذ هذا الخيار أكثر من مرّة، لسببين إثنين:
الأوّل متمثّلٌ بتركيز إيران على الصواريخ في مجمل منظوماتها العسكرية، لأنها رأت فيها الخيار الأنسب في أي مواجهة عسكرية ممكنة، ويمكن أن تطال الأسطول الأميركي في الخليج، والقواعد المتناثرة في المنطقة.
والثاني، هو أن البرنامج النووي الإيراني، ليس برنامجاً مشترىً، ولا مستأجراً، ولا يدفع ثمن عقود صيانةٍ للخارج، والكفاءات التي عملت على إنجازه وتطويره وإدارة العمليات اليومية فيه هي كفاءاتٌ إيرانية، مما يعني أنه حتى عملية ضربه لا تمنع إعادة بنائه وتشغيله.
التجربة الإيرانية في المشروع النووي انطلقت من الصفر، فبعد نهاية حرب الخليج الأولى، قرّرت القيادة الإيرانية الشروع في تشغيل المنشآت النووية، التي كان نظام الشّاه قد شرع في بناء البعض منها، ولم تكن آنذاك أي اعتراضات غربيّة عليها، ويعود ذلك لسببين؛ الأوّل أن التوجّه السياسي لنظام الشّاه كان يسير جنباً إلى جنب مع الأجندة الأميركية في المنطقة، والثاني، أن محطات توليد الكهرباء هذه، كانت ستعمل بوقود مشترى من الخارج، وبدعمٍ فنيٍّ فرنسي وألماني وأميركي، الأمر الذي يعني أنها مشاريع ستستمرّ في دفع التكاليف التشغيلية لصالح الغرب.
ما فعلته الثورة الإسلامية، أنها أعادت اختراع العجلة، وتمكّنت ببحوثها، وبفضل جهودٍ استمرت لسنوات في الهندسة العكسية، من إنجاز أوّل جهاز طرد مركزي، يغذّي محطات الطاقة بالوقود عبر عملية التخصيب، الأمر الذي يعني السيطرة على مجمل العملية الإنتاجية من الخطوة صفر إلى توليد الطاقة.
احتاج هذا الجهد الكبير إلى عددٍ كبيرٍ من العلماء والمهندسين والمدراء الناجحين، الذين لا تنقطع إيران عن إنجابهم!