ماذا يفعل الموساد في تركيا؟
الحديث عن العلاقات الإسرائيلية التركية ظهر إلى العلن مجدداً منذ السابع من أكتوبر، لكن بيان وزارة الداخلية الذي تحدّث عن إلقاء القبض على 34 من عملاء الموساد الإسرائيلي في ولايات تركية فاجأ الجميع.
في الوقت الذي زادت فيه صادرات تركيا إلى الكيان الصهيوني بنسبة 38% في شهر واحد لتصل إلى 430 مليون دولار في كانون الأول/ديسمبر 2023 بعد أن كانت 319 مليون دولار في الشهر الذي سبقه، فوجئ الجميع ببيان وزارة الداخلية الذي تحدّث عن إلقاء القبض على 34 من عملاء الموساد الإسرائيلي في ثماني ولايات تركية. وأمرت المحكمة باعتقال 18 منهم وإخلاء سبيل البعض وترحيل البعض الآخر، وهو ما استغربته الأوساط الأمنية في قضية مهمة تخص الأمن القومي.
المعلومات الصحافية ونقلاً عن مصادر أمنية واستخباراتية قالت إنّ عناصر المجموعة ومعظمهم سوريون وعراقيون وفلسطينيون ولبنانيون (وأحدهم كان خطيباً في أحد الجوامع جنوب البلاد)، والبعض حاصل على الجنسية التركية بشرائه مسكناً في تركيا، كانوا على علاقة مباشرة وغير مباشرة مع القسم المسؤول عن حماس في الموساد الإسرائيلي الذي كلّفهم بمهام مختلفة في العديد من المدن التركية.
ومنها مراقبة تحرّكات بعض المواطنين العرب والأتراك النشطين في شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام والمعادين للكيان الصهيوني، وإبلاغ الموساد بعناوينهم وتنقّلاتهم وعلاقاتهم الشخصية مع الأتراك والأجانب.
كما كشفت المخابرات عن اتصالات البعض من هؤلاء بمحمد دحلان المقيم في بلغراد والذي كان بدوره يصدر تعليماته لهم لمراقبة عناصر حماس والفلسطينيين المتضامنين معها، ووضع الخطط لاغتيالهم أو اختطافهم خلال تنقّلاتهم بين تركيا وقطر ولبنان، وفق المعلومات الصحافية. وقالت هذه المعلومات إنّ من بين الفلسطينيين المستهدفين كان الشهيد صالح العاروري الذي قيل إنه غادر تركيا بعد المصالحة التركية-الإسرائيلية العام الماضي، خاصة بعد زيارة الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ إلى أنقرة في 9 آذار/مارس 2022.
واشترط هرتسوغ آنذاك على الرئيس إردوغان قطع أو تجميد علاقات تركيا مع حماس وترحيل قياداتها ومسؤوليها إلى قطر ليساهم ذلك في فتح صفحة جديدة في العلاقات بين أنقرة و"تل أبيب". والتقى إردوغان بعد هذه الزيارة رئيس وزراء الكيان الصهيوني لابيد في نيويورك في أيلول/سبتمبر 2022 ثم نتنياهو في أيلول/سبتمبر الماضي في نيويورك أيضاً حيث شاركا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أجواء ودية ساخنة.
واكتسبت الاعتقالات الأخيرة أهمية إضافية لأنها جاءت بعد تهديدات المخابرات الإسرائيلية قبل شهرين بملاحقة قيادات حماس أيّاً كانوا مع ذكر اسم قطر وتركيا ولبنان.
وردّ المسؤولون الأتراك آنذاك بشدة على هذه التهديدات وقالوا "إنّ أنقرة ستنتقم لأي عمل إرهابي إسرائيلي على أراضيها". في الوقت الذي ذكّرت فيه وسائل الإعلام بعلاقات الموساد مع الميليشيات الكردية في شرق الفرات، وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي وقتل عناصره الأسبوع الماضي 12 من العساكر الأتراك خلال عملياتهم العسكرية شمال العراق.
وسائل الإعلام الموالية لإردوغان ذكّرت أيضاً بإلقاء القبض على مواطن إسرائيلي مع زوجته وكان يصوّر السكن الشخصي للرئيس إردوغان من تلة تطلّ على إسطنبول في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
وتمّ إخلاء سبيلهما بعد 9 أيام وبعد اتصال هاتفي أجراه رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت مع إردوغان، فيما اتصل وزير خارجيته لابيد بنظيره التركي جاويش أوغلو. وتحدّث الإعلام التركي أكثر من مرة عن العديد من حالات التوتر بين استخبارات "تل أبيب" وأنقرة التي كشفت في 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عن إفشال محاولة سابقة لعملاء الموساد لاختطاف أحد المهندسين الفلسطينيين الذي صمّم برنامجاً إلكترونياً ضد القبة الحديدية الإسرائيلية، وتمّ اعتقال اثنين من هؤلاء العملاء أحدهما فلسطيني. كما تحدّث الإعلام التركي عن نشاط عملاء الموساد ضد أيّ وجود إيراني في تركيا وشمال قبرص التركية حيث تنشط الشركات الإسرائيلية واليهودية هناك.
هذا في الوقت الذي تستبعد فيه الأوساط السياسية لهذا التوتر في العلاقات بين الموساد وجهاز المخابرات التركي MİT الذي يترّأسه الآن إبراهيم كالين مستشار إردوغان السابق، والذي حل محلّ هاكان فيدان الذي أصبح وزيراً للخارجية، أن ينعكس سلبياً على العلاقات بين كل من أنقرة و"تل أبيب" التي تستورد معظم حاجياتها الأساسية من تركيا.
ويبدو أنها تتهرّب من تدمير كلّ الجسور في علاقاتها مع الكيان الصهيوني ومنظمات اللوبي اليهودي في أميركا، وجاء وزير خارجيتها بلينكن ليبحث مع نظيره فيدان والرئيس إردوغان مجمل القضايا الحسّاسة التي تهمّ البلدين أكثر من موضوع غزة.
وقد يفسّر ذلك الإعلان المفاجئ للسفير التركي في واشنطن مراد مرجان عن تقاعده وعودته إلى تركيا، ومعروف عنه علاقاته الخاصة والمميّزة مع اللوبيات اليهودية، وأدّى دوراً مهماً في المصالحة التركية-الإسرائيلية التي سبقتها سلسلة من اللقاءات السرية والعلنية بين جهازي المخابرات بين البلدين، تمّ خلالها بحث إمكانيات التنسيق والتعاون والعمل المشترك.
مع التذكير أنّ الإعلام الإسرائيلي المقرّب من الموساد كان قد شنّ هجوماً كبيراً ضد هاكان فيدان بعد أن عيّنه إردوغان رئيساً للمخابرات عام 2010 وقالت عنه إنه مقرّب من إيران. وهو ما لم يكن صحيحاً إذ أدّى فيدان لاحقاً دوراً أساسياً في مجمل تطوّرات الأزمة السورية بالتنسيق والتعاون مع السعودية وقطر والإمارات وأميركا وفرنسا والدول الأوربية الأخرى وباعتراف رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم.
ويبقى الرهان على تطورات المرحلة المقبلة أوّلاً في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، وبالتالي على الوضع في غزة بانعكاسات ذلك على التوتر في باب المندب والجنوب اللبناني. وهو ما تراقبه أنقرة عن كثب كما هي تراقب المواقف المحتملة للأنظمة العربية التي لن تسبقها أنقرة في أيّ موقف عمليّ لدعم الشعب الفلسطيني طالما أنّ السلطة الفلسطينية متواطئة مع الكيان الصهيوني.
في الوقت الذي ينتقد فيه الإعلام موقف الأنظمة العربية التي لم تلتزم بتعهّداتها للرئيس إردوغان فيما يتعلّق بالمليارات من الدولارات السعودية والإماراتية لدعم المصرف المركزي التركي الذي يعيش أخطر أزماته المالية. خاصة بعد أن فشل وزير الخزانة والمالية محمد شيمشاك في إقناع المؤسسات المالية الدولية والأميركية والأوروبية بمساعدة بلاده لتجاوز أزمتها المالية، وهو ما يحتاج لضوء أخضر أميركي وتشجيع من اللوبيات اليهودية المعروفة.
وتتوقّع وسائل الإعلام الموالية للرئيس إردوغان لهذه اللوبيات أن تستنفر كلّ إمكانياتها لخلق المشاكل السياسية والأمنية لتركيا مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية نهاية آذار/مارس المقبل.
في الوقت الذي تتوقّع فيه المعارضة للرئيس إردوغان المزيد من التصعيد في العلاقة مع "تل أبيب" عبر توجبه أصابع الاتهام إليها في أي قضية أمنية، وهو ما سيساعده لشحن الشعور الديني والقومي لدى أنصاره وأتباعه حتى لا يفكّروا بمشاكلهم المعيشية الصعبة جداً. وهذا ما يفعله إردوغان قبل كل انتخابات منذ استلامه للسلطة نهاية 2002 بعد أن أثبت الناخب التركي أنه يتأثّر بالمقولات الدينية والطائفية والقومية التاريخية الجيّاشة حتى إن كانت متناقضة.
كما هو الحال في تهديدات إردوغان للكيان الصهيونى بعد الهجوم على سفينة مرمرة نهاية أيار/مايو 2010، إلا أنه عاد وأغلق ملف القضية في المحاكم التركية والدولية مقابل عشرين مليون دولار تبرّعت بها "تل أبيب" لعائلات الضحايا. وقدّمت أنقرة بعد ذلك العديد من التنازلات لـ "تل أبيب" في مختلف المجالات إلى أن تمّت مصالحة إردوغان مع نتنياهو في 20 أيلول/ سبتمبر الماضي، بعد أن قال عنه إنه "إرهابي ومجرم ووقح وسفّاح وقاتل ونازيّ، وإنّ تركيا ستلاحقه في المحاكم الدولية". ولكنّ جنوب أفريقيا سبقتها في ذلك.