هل تشكّل حرب كاراباخ متغيّراً استراتيجياً ضد إيران؟
الأمن في منطقة جنوب القوقاز بعد حرب كاراباخ 2020 لن يكون كما قبله، ومن الطبيعي أن تقوم الدول المعنية في المنطقة بدراسة تأثير هذه المتغيرات الاستراتيجية في أمنها القومي.
منذ توقيع الاتفاق الثلاثي بين كلّ من أرمينيا وأذربيجان وروسيا، لم تنفك التحليلات والتقديرات الاستراتيجية تتحدَّث عن أهميته وتأثيره في البلدان المعنية، إضافة إلى تأثيره في البلدان المجاورة، وخصوصاً الدول الإقليمية الوازنة في المنطقة، ومنها إيران.
ونلاحظ أنه - وفي وقت متزامن تقريباً - تمّ نشر العديد من المقالات باللغتين العربية والأجنبية، والتي تشير إلى خسارة استراتيجية و"عزلة" سوف تعانيها إيران بعد الخسارة الأرمينية، وأن ازدياد النفوذين التركي والروسي، إضافة إلى التغلغل الإسرائيلي في المنطقة، سيجعلان النفوذ الإيراني في جنوب القوقاز أكثر محدودية...
الأكيد أنَّ الأمن في منطقة جنوب القوقاز بعد حرب كاراباخ 2020 لن يكون كما قبله، ومن الطبيعي أن تقوم الدول المعنية في المنطقة بدراسة تأثير هذه المتغيرات الاستراتيجية في أمنها القومي. وفي الحالة الإيرانية، نجد ما يلي:
1 - العلاقات التاريخية:
اعترفت إيران باستقلال جارتيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحاولت الوقوف على الحياد بينهما خلال معركة كاراباخ الأولى، لكن التطورات المتلاحقة والعدائية التي واجهها بها الرئيس الآذري، أبو الفضل إلجي بيك، دفعت الإيرانيين إلى التقرّب من الأرمن بشكل أكبر.
شهدت العلاقات بين كل من إيران وأذربيجان تحسّناً إثر الإطاحة بالرئيس الآذري الأول بعد الاستقلال، ومجيء حيدر علييف ثم إلهام علييف، لكن جوهر العلاقة بقي محفوفاً بالحذر بسبب ما يسمّيه الإيرانيون سيطرة الأميركيين والإسرائيليين على أذربيجان، بعكس العلاقة مع أرمينيا التي بقيت في إطار الصداقة وحسن الجوار.
وخلال حرب كاراباخ 2020، أعلن الإيرانيون بشكل صريح دعمهم لأذربيجان في استعادة سيادتها على أرضها، ولكنهم دعوا إلى تحقيق ذلك عبر الوسائل الدبلوماسية. ووصف علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد علي خامنئي للشؤون الدولية، منطقة ناغورنو كاراباخ، بأنها "أرض محتلة تابعة لأذربيجان"، وأكد أن بلاده ستساعد باكو على استعادتها عبر المفاوضات.
2 - الحدود المشتركة:
تبلغ الحدود المشتركة بين إيران وأذربيجان ما يزيد على 700 كلم، سيطر الأرمن بعد حرب كاراباخ الأولى على جزء منها. وخلال عقود من الزمن، شكّلت هذه الحدود قلقاً أمنياً لإيران بسبب التواجد الإسرائيلي العسكري والاستخباري. لذا، إنَّ عودة الجزء المسيطر عليه أرمنياً إلى السيادة الآذرية، لن يشكّل متغيراً استراتيجياً كبيراً بالنسبة إلى الإيرانيين.
3 - نافذة على العالم الخارجي:
بما أنَّ أرمينيا دولة مغلقة، فمن السذاجة القول إنَّها تشكّل "نافذة" إيران على العالم الخارجي، بل إن العكس صحيح. تشكّل إيران النافذة الأكثر رحابة لأرمينيا على العالم الخارجي، إذ يحيط بها عدوّان تاريخيان (تركيا وأذربيجان)، وهي تقيم مع جورجيا علاقات مقبولة نوعاً ما، مشوبة دائماً بالحذر المتبادل، نتيجة اختلاف توجهات السياسة الخارجية ووجود جالية أرمنية كبيرة في أحد الأقاليم الجورجية.
4 - التحديات الأمنية:
من الطّبيعي أن يقلق الإيرانيون من قيام أنقرة باستقدام المقاتلين المرتزقة السوريين إلى حدودها، مع ما يشكّله وجودهم من خطر أمني ومحاولات تسلّل على الحدود. وقد تحدّثت بعض القنوات العربية عن استقدام عائلات هؤلاء لإسكانهم في إقليم كاراباخ في القرى التي هجرها مواطنوها الأرمن.
فعلياً، لا يشكّل هذا الأمر قلقاً لإيران فحسب، بل لروسيا أيضاً التي لطالما اعتبرت أن قدومها لقتال الإسلاميين والتكفيريين في سوريا هو خط دفاع أولي، بدلاً من أن تقاتلهم داخل حدودها في القوقاز، فهل سيسمح الروس بالتلاعب بالديموغرافيا في جنوب القوقاز واستقدام مقاتلين ذوي خبرة قتالية إلى المنطقة بهذه البساطة؟
5 - ممر ناختشيفان - باكو:
قد يؤدي فتح ممر داخل الأراضي الأرمنية يصل الإقليم الآذري ناختشيفان بالأراضي الأم إلى خسارة اقتصادية إيرانية، إذ شكّلت إيران سابقاً ممراً لعبور السكان والسلع والبضائع، كما سيؤدي إلى تقليص اعتماد أذربيجان على إيران في هذا الأمر الحيوي.
تبقى أنقرة أكبر المستفيدين من هذا الممر الذي سيسهّل لها زيادة نفوذها إلى آسيا الوسطى والقوقاز، ويسمح لها بمدّ أنابيب تصل الغاز الآذري إلى أوروبا عبر أراضيها بكلفة أقل من خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان. وكما كان متوقعاً، سارع الأتراك إلى الإعلان عن مشروع سكك حديد إلى ناختشيفان مباشرة بعد الاتفاق.
ومن المهمّ لفت النظر إلى أنَّ فتح هذا الممر ووضع حرس حدود روس على الحدود بين البلدين لا يعني غياب السيادة الأرمنية عليه، بل يبقى ضمن السيادة الأرمنية، ويبقى من حقّ الأرمن تحديد ما الذي يمكن مروره عبره، وأن يتقاضوا رسم مرور وانتقال. أما بالنسبة إلى أنابيب الغاز التي تريدها أنقرة، فيبقى الأمر مرتبطاً بالموافقة الروسية على الأمر.
انطلاقاً مما سبق، يمكن القول إنَّ الربح الاستراتيجي الَّذي حقّقته كل من روسيا وتركيا وأذربيجان في حرب كاراباخ 2020 وتبدّل المعطيات الإقليمية، لا يمكن أن يشكّلا متغيراً استراتيجياً يمكن البناء عليه لفرض المزيد من العزلة الدولية على إيران، في وقت يستعد الإيرانيون لانسحاب أميركي من العراق وأفغانستان (أعلنت إدارة ترامب نيّتها القيام به)، ثم لاستقبال إدارة أميركية جديدة ورئيس أميركي جديد أعلن مسبقاً رغبته في العودة إلى الاتفاق النوويّ.