الحراك الفلسطيني ما بعد التطبيع ومحاذير حرف المسار

إن إدراك مرتكزات "صفقة القرن" على المستوى الفلسطيني بداية إجبارية لمعرفة مآلات الحراك السياسي الفلسطيني، وباعتقادنا، يمكن حصر تلك المرتكزات في أمرين.

  • طفل فلسطيني يشارك في احتجاج ضد ما يسمى بـ
    طفل فلسطيني يشارك في احتجاج ضد ما يسمى بـ "صفقة القرن".

شهدت الساحة السياسية الفلسطينية حراكاً متسارعاً منذ إعلان التطبيع الإماراتي مع "إسرائيل"، بدءاً من اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، مروراً بإصدار البيان الأول للقيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، وليس انتهاء بمحادثات حركتي فتح وحماس في إسطنبول، والحديث عن عقد انتخابات فلسطينية خلال 6 أشهر.

هذا الحراك الفلسطينيّ يهدف في أساسه إلى مجابهة "صفقة القرن" الأميركية. بالتأكيد، هناك مخطّطات أميركية وإسرائيلية، ومن خلفها دول المحور الأميركي في المنطقة، تسعى لإجهاض الحراك، الأمر الذي يفرض علينا تناول تلك المخططات بالدراسة والتحليل، وخصوصاً أن مآلات الحراك الفلسطيني والنتائج المترتبة عليه مصيرية، ليس على القضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل على مستقبل المنطقة برمّتها أيضاً. 

ننطلق من حقيقة أن المشروع الأميركي (صفقة القرن) يتعدى فرض حل أميركي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منحاز بكليته إلى المشروع الصهيوني، بل يهدف في الأساس إلى إعادة ترتيب هندسة الشرق الأوسط بحسب رؤية المصلحة الأميركية الجديدة، الداعية إلى تعزيز القوة الأميركية في المنطقة بأقل قدر ممكن من التدخل الأميركي المباشر، والأهم بأقل قدر ممكن من التكاليف المادية الأميركية، من خلال إقامة حلف صهيو-عربي تحت المظلة الأميركية، يخفض موازنة وزارة الدفاع الأميركية، ويزيد في الوقت ذاته من إيرادات شركات السلاح الأميركية التي ستزوّد الحلف بالسلاح مقابل المال الخليجيّ.

إن إدراك مرتكزات "صفقة القرن" على المستوى الفلسطيني بداية إجبارية لمعرفة مآلات الحراك السياسي الفلسطيني. وباعتقادنا، يمكن حصر تلك المرتكزات في أمرين، مع استثناء البعد التاريخي:

أولاً، ابتلاع الضفة الغربية والقدس، وتحويلهما إلى يهودا والسامرة في أرض "إسرائيل" الكبرى في ما أطلقت عليه "إسرائيل" عملية الضم، وإبقاء الوجود الفلسطيني في كانتونات سكانية مكتظة، تمهيداً لترحيله في مرحلة قادمة تحت مسميات عدة وحجج مختلفة. 

قطعت "إسرائيل" شوطاً كبيراً على مدار ربع قرن من الاستيطان الزاحف بلا توقف وعمليات التهويد الممنهج للقدس، وتوّج ذلك باعتراف أميركي، ونقل سفارة، وتحديد خرائط ضم هيكلية للضفة الغربية في "صفقة القرن"، ولم يتبقَ من إتمام ضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية الكاملة إلا الإعلان. بمعنى آخر، وبكلمات ثقيلة على النفس الوطنيّة، إن مخطَّطات "صفقة القرن" في الضفة الغربية تم حسمها تقريباً، من دون الحاجة إلى القتال مع الفلسطيني.

ثانياً، تبحث "صفقة القرن" عن إقامة ما يُسمى بالكيانيّة الفلسطينيّة، مركزها قطاع غزة، ووظيفتها إدارة السكّان الفلسطينيين من دون أيّ حديث عن حقّ تقرير مصير شعب تحت الاحتلال؛ غزة التي لا يوجد مطمع إسرائيلي بها، ولكن هناك تخوفات أمنية منها، وخصوصاً مع تنامي قدرتها العسكرية إلى الدرجة التي لا يمكن تغافلها كخطر استراتيجي يهدّد على الأقل مليوني مستوطن في مدن ومستوطنات جنوب الكيان الصّهيوني.

إن الحصار والتضييق المالي على غزة هدفهما إفشال ذلك التنامي العسكري، الأمر الذي لم ينجح إسرائيلياً، وخصوصاً إذا اتفقنا على أنَّ "إسرائيل" لم تذهب إلى حرب شاملة لسببين رئيسيين، أولاً، أنها تفتقد على المدى الاستراتيجي الهدف السياسي من الحرب، بمعنى: ماذا ستفعل بغزة بعد انتهاء الحرب؟ ومن سيحكمها؟

ثانياً، هل تعتبر "إسرائيل" مستعدة لدفع تكلفة حرب ليس لها هدف سياسي استراتيجي ينهي أزمتها، في الوقت الذي يعتقد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، أعلى هرمها السياسي، أنَّ من الممكن تحاشي الحرب، من خلال استراتيجية احتواء غزة، من خلال إيجاد منظومة حكم بالطرق الناعمة السياسية تضمن عدم استخدام سلاح غزة وتحييده تحت أيّ من المسميات؟!

من الجدير الإشارة إلى حقيقة مرّة، لكنها تبقى حقيقيَّة، وهي أن الانقسام الفلسطيني مصلحة إسرائيلية، لكن المصلحة دوماً مرتبطة بحدود زمنية وأهداف مراد تحقيقها. وعلى مدار 14 عاماً من الانقسام، نجحت المساعي الصهيونية إلى حد كبير في تنفيذ مخططاتها في الضفة والقدس، إذ خلقت أجواء في الضفة تحول دون تصدّي فصائل المقاومة لتلك المخططات، تحت شعارات الانقسام التي عززتها الماكينة الإسرائيلية، وأهمها الخطر الحمساوي على السلطة الفلسطينية في الضفة.

 يحتاج تحقيق الأهداف الكبرى الأميركية في المنطقة إلى بعض المخاطرة المدروسة من "إسرائيل"، وخصوصاً إذا كان دونالد ترامب يحتاج إليها لاستكمال مشواره السياسي في ولاية ثانية في البيت الأبيض. لذا، من الممكن إعادة الوحدة الفلسطينية من أجل خلق بديل سياسي يحكم مركز الكيانية الفلسطينية في المخطط الأميركي (غزة)، لكن بحسب المواصفات الإسرائيلية، وتحت سقف أوسلو المعدل أميركياً بنسخته الجديدة، والذي من الممكن الترويج له على أساس أنه يخدم غزة حياتياً ومالياً أكثر من أوسلو السابق، لكنه في حقيقة الأمر يبعدها عن قضايا الوطن الكبرى.

عدم نجاح استراتيجية الاحتواء الأميركية لغزة ليس نهاية المطاف الأميركي، بل يمكن استخدام الحرب، لكنها ليست حرباً بهدف اقتلاع جذور المقاومة من غزة، كما كانت تطالب كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، باقتلاع حزب الله من قبل إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي في حرب تموز 2006 لبناء الشرق الأوسط الجديد، لكنها حرب تحريكية، هدفها الأساسي إزالة أي عقبات أمام مشروع إيجاد نظام حكم في غزة وفق المواصفات الإسرائيلية، من خلال تهيئة بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية بعد الحرب، متقبّلة لشرعية النظام المستحدث في غزة.

 لذا، ليس من باب المصادفة أن تصرح المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في هذا التوقيت بأنّ إمكانية المواجهة العسكرية مع غزة في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر وشيكة، وأنها في طور الاستعداد لتلك المعركة.

 إن تحويل التهديد إلى فرصة يتطلّب فلسطينياً الابتعاد عن فكرة الإصرار على فعل الأمر نفسه وانتظار نتائج مختلفة. لذا، إن إتمام عملية مصالحة فلسطينية تحت سقف برنامج وطني متّفق عليه، يعيد الحالة الفلسطينية إلى مرحلة التحرر الوطني، مع تعزيز المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً في الضفة الغربية، ميدان المواجهة الحقيقي، مع الذهاب إلى ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء انتخابات فلسطينية لبناء نظام سياسي فلسطيني، بعيداً من فكرة أن وجود السلطة الفلسطينية مرتبط باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ"إسرائيل"، والدور الخدمي الذي تقدّمه تلك السلطة لـ"دولة" الاحتلال، كما كان الحال في اتفاق أوسلو.

إنَّ نجاح الحراك الفلسطيني الحالي مرتبط بقدرة الفلسطينيين على عدم السماح بحرف مسار الحراك عن المواجهة الفعلية لـ"صفقة القرن" إلى أهداف هامشية تفرّغ الحراك من جدواه الحقيقي.