17 عاماً على المحاولة الأولى: الشرق والغرب في المعادلة الاقتصادية السورية
اليوم تستيقظ المنطقة كلها على محورية الشرق في المشهد الاقتصادي الدولي، فيما سوريا تقاوم سلسلة طويلة من العقوبات والأزمات.
قبل نحو 17 عاماً، أعلنت دمشق في أعقاب محاولة الغرب تحميلها مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، عن أولوية التوجه شرقاً في علاقاتها السياسية والاقتصادية. لم يكن هذا القرار يعبّر عن رغبة سورية بالدخول في قطيعة كاملة مع الغرب، وإنما مجرد محاولة لتنويع "سلة" العلاقات الخارجية، لا سيما في شقها الاقتصادي، حيث توجد قوى اقتصادية صاعدة ومؤثرة دولياً، وغير منضوية بالكامل ضمن المشروع الغربي.
تعززت صوابية هذا الخيار أكثر مع دخول البلاد في أزمتها المستمرة منذ العام 2011، وما تخللها من فرض الغرب لطيف واسع من العقوبات الاقتصادية. ولعلّ العبارة الشهيرة لوزير الخارجية الراحل وليد المعلم، والتي قال فيها إن بلاده "ستنسى أن أوروبا على الخارطة"، تختصر ماهية المشهد السياسي والاقتصادي ومضمونه الذي كانت دمشق تعمل على تحضيره لمستقبل علاقاتها بالخارج.
ومع اقتراب الأزمة من دخول عامها الثاني عشر، فإن الوضع الراهن الذي تعيشه سوريا سياسياً واقتصادياً يثير مجموعة من التساؤلات المتعلقة بمدى فعالية الشرق بمفهومه السياسي وليس الجغرافي، وجدوى تفضيل العلاقات بدوله، والانحياز إلى قضاياه سابقاً، حاضراً، ومستقبلاً.
على مدار عقدين
على أهمية العلاقات السياسية والثقافية، التي حاولت دمشق عبر عقود من الزمن صوغها مع دول في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، وأوروبا الشرقية، لا سيما لجهة تعزيز النفوذ السوري في قضايا إقليمية ودولية عدة وتوفير الدعم للقضايا الوطنية، لكن تلمس الأثر الشعبي المباشر يبقى في مسيرة العلاقات الاقتصادية، التي مرت بالنسبة إلى الحالة السورية في مراحل عدة متباينة يمكن اختصارها في ثلاث مراحل أساسية هي:
- الأولى وتمثل مرحلة التوجّه لبناء علاقات اقتصادية (تجارية، استثمارية) مع دول الشرق السياسي، ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أن جميع الزيارات الرئاسية الخارجية خلال العقد الأول من القرن الحالي، والتي شملت دولاً في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، تميزت بمشاركة عدد كبير من رجال الأعمال السوريين والمسؤولين الاقتصاديين الحكوميين فيها، وبعد العام 2005، بدا واضحاً الاهتمام الحكومي بذلك الشرق من الصين إلى الهند فماليزيا وصولاً إلى باكستان، وتركيا وغيرها، سواء من خلال الزيارات الرسمية والاجتماعات الثنائية، وما خلصت إليه من التوقيع على اتفاقيات تعاون في مجالات عدة، أو من خلال المجالس المشتركة لرجال الأعمال. لكن، مع ذلك، لم تكن هناك تحوّلات جذرية في تركيبة العلاقات التجارية الخارجية، إذ بقيت أوروبا الشريك التجاري الأول لسنوات قبل أن تتحسن مؤشرات السوق العربية على وقع اتفاقية التجارة الحرة العربية. ولو عدنا إلى المؤشرات المتعلقة بحركة التبادل لوجدنا أن قيمة المستوردات السورية من دول الاتحاد الأوروبي بلغت في العام 2002 نحو 14.4 مليار دولار، ومن الدول الآسيوية نحو 9.4 مليارات دولار.
-الثانية، وهي المرحلة التي حاولت فيها سوريا، وتحديداً بعد عودة الانفتاح الغربي عليها في العام 2008، تحقيق موازنة بين علاقات البلاد الاقتصادية مع كل من الغرب والشرق وتوجيهها بما يلبي احتياجات البلاد من جهة، وطبيعة ما توفره وتتميز به كل سوق من سلع ومواد من جهة ثانية. إذ في الوقت الذي كانت هناك خطوات مباشرة لتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي مع بعض دول الشرق قبل سنوات الأزمة، كانت مفاوضات الشراكة السورية-الأوروبية تقترب من تحقيق نتائج متقدمة على طريق توقيع الاتفاق النهائي، فضلاً عن بعض المساعدات الفنية والتمويلية التي كانت تحصل عليها دمشق من الاتحاد الأوروبي. وحسب ما تشير البيانات الرسمية، فإن مستوردات البلاد من دول الاتحاد الأوروبي وصلت في العام 2010 إلى أكثر من 4.5 مليارات دولار، بينما كانت قيمة المستوردات من تركيا، وإيران، والصين، وكوريا الجنوبية، وبلدان آسيوية أخرى 5.8 مليارات دولار، إذ بلغت قيمة المستوردات من الصين وحدها 1.5 مليار دولار.
-الثالثة وفيها رجحت كفة العلاقة مع الشرق أو لنقل حسمت، والسبب في ذلك العقوبات الغربية المباشرة وغير المباشرة التي فرضت على الاقتصاد السوري خلال الأسابيع الأولى من عمر الأزمة، وتعمقت أكثر خلال السنوات التالية، وهو ما قابله تأكيد سوري أن الأولوية في إعادة الإعمار والفرص الاستثمارية والتعاون التجاري هي للدول الحليفة والصديقة المنتمية إلى الشرق السياسي، وترجم ببعض الخطوات كطرح بعض الفرص الاستثمارية على دول كالصين والهند وإيران وروسيا وغيرها، والتغيرات التي طرأت على خريطة التجارة الخارجية، إذ تتصدر الصين منذ عدة سنوات قائمة الدول المصدرة إلى سوريا. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال البيانات المتعلقة بالميزان التجاري لعام 2020، والذي خلص إلى أن قيمة المستوردات السورية من دول الاتحاد الأوروبي لم تتجاوز في ذلك العام أكثر من 450 مليون دولار مقابل أكثر من 1.1 مليار دولار قيمة المستوردات الواردة من الدول الآسيوية.
تفضيل وليس شطباً
لكن، هل الاعتماد على أسواق الشرق وإمكانياتها، وتجنب التعامل مع أسواق الغرب سيكون مجدياً اقتصادياً؟ وإذا كان كذلك، فلماذا تعيش سوريا حالياً أزمة اقتصادية خانقة؟
كرّست العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، على مدار السنوات السابقة، مجموعة من الحقائق أبرزها الآتي:
-العمل على إعادة توجيه دفة العلاقات الاقتصادية الخارجية، لا يمكن أن يتم أو ينجح إلا في الظروف الطبيعية، إذ أثبتت الآثار المترتبة على العقوبات أنه لا يمكن تحييد الأسواق الغربية تماماً، لا سيما لجهة المنتجات والخبرات التقنية والتكنولوجية منها، وما يحدث في قطاع الطاقة في سوريا حاليا خير دليل على ذلك، فمثلاً التنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية متوقف بسبب عدم القدرة على توريد التقانة اللازمة، والتي هي في معظمها غربية المنشأ، كما أن بعض السلع التي تؤمن من الشرق ليست بالجودة نفسها الموجودة في الغرب. والأمر نفسه ينطبق على المصارف والنقل والتأمين وغيرها. لا بل وامتد تأثيره إلى مجالات وقطاعات غير مشمولة أساساً بالعقوبات كالغذاء والصحة.
-الهيمنة الإقتصادية الأميركية في العالم جعلت جميع الأسواق، بما فيها أسواق الدول المعارضة لواشنطن، تخشى الصدام معها أو مواجهتها، ولهذا فإن الامتثال لما تفرضه الولايات المتحدة من عقوبات بحق بعض الدول يبدو أمر متوقعاً، وسوريا في أزمتها عانت كثيراً من هذه المشكلة، فعلى الرغم من الدعم والمساندة السياسية لها من دول عدة إلا أن العديد من الحكومات في الشرق وشركاتها الحكومية والخاصة تتجنب إلى الآن الاستثمار في سوريا، أو فتح مجالات تعاون مباشرة خوفاً من تعرضها للعقوبات، بما في ذلك شركات روسية وصينية وغيرها.
-ما تقدم لا يقلل من أهمية أسواق الشرق، التي شكلت ملجأ للسوريين في تأمين احتياجاتهم من السلع والمواد، واقع من شأنه أن يعزز من فرضية أن التوجه نحو أسواق الشرق يمكنه أن يحل العديد من الأزمات، ويسد جزءاً لا يستهان به على صعيد تأمين السلع والمواد، والاستفادة من الخبرات والإمكانيات الإستثمارية وفق سلم الاحتياجات الوطنية، إنما في المقابل هو لا يعني أبداً إمكانية الاستغناء عن أسواق الغرب وشطبها من خريطة العلاقات الإقتصادية الخارجية.
معادلة الحاجة
قبل 17 عاماً وجهت دمشق بوصلتها الخارجية نحو الشرق، إلا أن مؤسساتها تعثرت أو أضاعت فرصة ثمنيه قبل سنوات الأزمة للاستفادة المثلى من ذلك، واليوم تستيقظ المنطقة كلها على محورية الشرق السياسي في المشهد الاقتصادي الدولي فتهرع لنسج علاقات تعاون وشراكة، فيما سوريا تقاوم سلسلة طويلة من العقوبات والأزمات الاقتصادية الناجمة أساساً عن محاصرة الغرب ومخاوف الشرق. ولذلك ومهما فرضت الظروف الحالية من إجراءات وسياسات وتوجهات، فإن هناك بعض الحقائق أبرزها أن توجه سوريا نحو الشرق لا يقابله إلغاء التعامل مع الغرب بحكم المصالح الإقتصادية المباشرة، وأن تطبيع الغرب لعلاقاته مع دمشق سراً أو علانية لن يجعل الأخيرة تفكر بطي صفحة علاقاتها مع الشرق أو تحجيمها.