الاحتلال مُستغرِق في اعتداءاته والعرب غارِقـون في التطبيع!
بات التطبيع العربي مع الاحتلال بذريعة المؤتمرات الدولية أو شروط المنظّمات الدّولية يتكرَّر من دون أيّ حَرَج من المستوى الرسمي على الجانب العربي.
قامت دولة الاحتلال عام 1948 على سلسلةٍ من المجازر وأعمال القتل والتخريب، وسرقة أراضي الفلسطينيين وطردهم منها، ضمن مسلسل متمادٍ من الإرهاب لم يتوقّف إلى يومنا هذا.
لكن الجرائم والاعتداءات الإسرائيلية التي كانت في ما مضى تقابَل ببيانات الشَجب والاستنكار العربي الرسمي باتت اليوم خارج رادار الرفض، بل إنّ "إسرائيل" أصبحت اليوم تنفّذ جرائمها مُطمئنّة إلى أنّها تحظى بغطاءٍ من العلاقات التطبيعية التي خرجت من أجواء السرّيّة التي كانت تلفّها في سنوات التسعينات، إلى علاقاتٍ صريحةٍ ومكشوفةٍ أعطتها "الحقّ في الدفاع عن نفسها"، وفق بعض التصريحات الصادِرة عن مسؤولين عرب، وأشرعت الأبواب أمامها لتبسط روايتها بما فيها من مزاعم وأكاذيب، وإنكار للحقّ الفلسطيني.
ربّما لا يحتاج الاحتلال إلى غطاءٍ عربي لاستكمال مشروعه الاستعماري، لكنّ هذا الغطاء القائم على التطبيع الذي تتصدَّره دول الخليج العربية بشكلٍ لافت، سهَّل على الاحتلال عمله، وأعطاه دفعة إضافيّة لتنفيذ جرائمه بحقّ الفلسطينيين من غزَّة إلى الضفة، ومن القدس إلى الداخل المحتلّ.
ففي القدس المُحتلة يُعمل الاحتلال سيف التهويد من دون هوادة، وكان من أبرز تطوّرات مشروعه التهويدي إقرار لجنة البنى التحتية الإسرائيلية مؤخراً مشروع (القطاء) الهوائي الاستيطاني الذي يصل جبل الزيتون بساحة البُراق، ويربط الشطر الغربي من المدينة المُحتلة بشطرها الشرقي، ضمن إطار يخدم مصلحة الاحتلال ورؤيته.
كذلك، أقدمت سلطات الاحتلال على إغلاق عددٍ من المؤسّسات الوطنية في الشطر الشرقي من المدينة ستّة أشهر تحت ذريعة مُمارَسة نشاطات لمصلحة السلطة الفلسطينيّة، وشملت المؤسّسات التي صدر قرار بإغلاقها: مديرية التربية والتعليم التابعة للأوقاف الإسلامية، ومكتب تلفزيون فلسطين، والمركز الطبي العربي.
وقرار الإغلاق ليس الأول الذي يستهدف المؤسّسات الفلسطينية في القدس المُحتلّة، بل هو يأتي في إطار منع الوجود الفلسطيني في القدس، ومنع المؤسّسات الفلسطينية من أن يكون لها دور في القطاعات المختلفة، ومنها الصحّة والتعليم والإعلام.
علاوة على ذلك، فإنّ الاحتلال لم يتوقّف عن تهويد المسجد الأقصى، بل نفَّذ في الأشهر الأخيرة جملة من الاعتدءات الهادِفة إلى تغيير الوضع القائم التاريخي، ونسفه لمصلحة الرواية الإسرائيلية. وكان من هذه الاعتداءات السماح للمُستوطنين بأداء الصّلوات التلمودية العلنية والجماعية في المسجد، تحت عيون شرطة الاحتلال وحمايتها؛ ومحاولة المُستوطنين فرض تمديد الوقت المُتاح للاقتحامات، في فترتيّ الصباح وما بعد الظهر، وذلك عبر تعمّد تأخير وقت اقتحامهم حتى تتجاوز جولتهم الوقت المُحدّد للاقتحامات؛ وتساوق الشرطة مع هذه المحاولات.
أمّا في غزَّة، فقد شنّ الاحتلال منذ حوالى أسبوعين عدواناً على القطاع المُحاصَر قُتِل فيه 34 فلسطينياً وذلك بعدما اغتال بهاء أبو العطا، أحد قادة سرايا القدس.
وفي الضفة يستمرّ الاحتلال في أعمال الدّهم والاعتقال التي تطال الفلسطينيين، فيما تتزايد اعتداءات المُستوطنين على الفلسطينيين، لا سيّما في الخليل برعاية سلطات الاحتلال.
أمّا في الدّاخل المحتل فيبقى الفلسطيني محلّ استهداف بهدف دفعه إلى ترك أرضه، ومن ذلك تمييز الأجهزة الأمنية التابعة للاحتلال في مُكافحة الجريمة على مستوى اليهود والعرب، إذ تعمل على منع الجريمة ومُحاربتها بين اليهود، فيما تعزِّزها بين العرب إن عبر التساهُل في مُلاحقة جرائم المُخدّرات، أو رعاية انتشار السلاح، وغير ذلك من السياسات.
لكن الاعتداءات الإسرائيلية هذه، وهي أمثلة على ما يجترحه الاحتلال بحقّ الفلسطينيين، لا تمنع حفلات التطبيع العربي مع الاحتلال، التي تتمّ برعايةٍ رسميّة، تحت مُسمَّيات الأمن، والرياضة، والتسامُح، وغير ذلك. وكان من أبرز مظاهر التطبيع التي جرت في الآونة الأخيرة وصول المنتخب السعودي إلى رام الله في 2019/10/13، للمُشاركة في التّصفيات المؤهّلة لكأس العالم 2022 وكأس آسيا 2023، وهي زيارة لا يمكن أن تكون من دون التنسيق والرضا الإسرائيلي.
علاوة على ذلك، زارت اللجنة الإدارية للمُنتخب المسجد الأقصى في 2019/10/14، بحماية ومُرافقة جنود الاحتلال الذين كانوا يعملون منذ صباح ذلك اليوم على طرد المسلمين من باب الرحمة، والاعتداء عليهم، ليتمّ المُستوطنون اقتحاماتهم للمسجد في أول أيام "عيد العرش" العبري. وكشف مؤخراً عن خبر مفاده أنّ شركات سعودية قدَّمت طلبات لشركات إسرائيلية في مجال الترجمة، لترجمة تقارير حكومية في عدَّة مجالات تتعلَّق بالمُحافظات السعودية.
وفي البحرين حضر وفد إسرائيلي للمُشاركة في مؤتمر الأمن البحري على مدى يومي 21-22 تشرين أول/أكتوبر لمُناقشة سُبُل الدّفاع عن سفن تبحر في الخليج من "الاعتداءات الإيرانيّة". وقد وضع خبراء إسرائيليون هذه المشاركة في إطار تعزيز التحالف مع دولٍ عربيةٍ سنّيةٍ ضد إيران، وتعزيز النفوذ الإسرائيلي العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي في منطقة الخليج.
كذلك، شاركت شخصيّات فلسطينية وعربية رسمية في المؤتمر السنوي لمنظمة اللوبي الإسرائيلية "جي ستريت" الذي عُقِدَ في واشنطن بين 26 و29 تشرين أول/أكتوبر، وكان من بين المشاركين كبير المفاوضين صائب عريقات. وإذا كان المشاركون في هذه المؤتمرات الداعِمة لدولة الاحتلال يُبرِّرون مشاركتهم بأنّها وسيلة لإسماع صوتهم، فإنّ هذا التبرير مردود إذ إنّ ما ينتج من المشاركة في مثل هذه القنوات الداعِمة للاحتلال هو تبييض صفحة الاحتلال والإضرار بالقضية الفلسطينية بما تعكسه هذه المشاركة من قبول لجماعات الضغط التي تقوم برامجها في جوهرها على رؤية مُناهِضة للقضية الفلسطينية ومُعادية لها.
واستقبلت قطر بداية هذا الشهر وفداً طبياً إسرائيلياً ضمّ تسعة أطباء من دولة الاحتلال للمشاركة في مؤتمر دولي لجراحة الأطفال؛ وبات التطبيع العربي مع الاحتلال بذريعة المؤتمرات الدولية أو شروط المنظّمات الدّولية يتكرَّر من دون أيّ حَرَج من المستوى الرسمي على الجانب العربي.
إذاً، يمكن القول إنّ الانفتاح العربي على الاحتلال يُشكِّل اليوم مظلّة للجرائم الإسرائيليّة التي تستهدف أرض فلسطين، وشعبها، ومُقدّساتها، ولا شكّ في أنّ مُبادلة هذه الجرائم بالرضا، وبتعزيز العلاقات مع دولة الاحتلال وتمتينها ستشكّل دافِعاً إضافياً لهذه الأخيرة كي تستمرّ في جرائمها وفي اعتداءاتها، التي تطال كلّ ما هو غير إسرائيلي.