"الإبادة الأرمنية ".. ماذا يقول التاريخ؟
لم تمنع الادعاءات المتبادلة بين يريفان وأنقرة كلاً من أرمينيا وتركيا من السعي لخلق أجواء إيجابية جديدة في العلاقات بين الدولتين، ليساهم ذلك في فتح الحدود المغلقة بين الدولتين وإحياء العلاقات التجارية.
بعد أربعة أشهر من استلامه السلطة في البيت الأبيض، بداية كانون الثاني/يناير 2021، اتصل الرئيس بايدن هاتفياً بالرئيس إردوغان للمرة الأولى ليبلغه أنه سيعترف رسميا بالإبادة الأرمنية، وهو ما فعله في اليوم التالي، أي في 24 نيسان/أبريل، وهو اليوم الذي يُحْيي فيه الأرمن في جميع أنحاء العالم ذكرى هذه "الإبادة".
ووصفها الرئيس بايدن، يوم الأربعاء، باللغة الأرمنية، من جديد بـ"التطهير العرقي والإبادة الجماعية"، وقال إن "مليوناً ونصف مليون أرمني راحوا ضحية لها خلال عملية التهجير القسري، التي تعرض لها الأرمن، بحيث تم طردهم من حيث كانوا يعيشون" إلى المناطق الجنوبية من الدولة العثمانية، أي سوريا والعراق وإيران.
الرئيس إردوغان سبق الرئيس بايدن، فأرسل الأربعاء (24 نيسان/أبريل) رسالة إلى البطريركية الأرمنية في إسطنبول معزياً الأرمن عموماً، وقال فيها: " لقد تعرّض الأرمن عام 1915، خلال عملية التهجير، لأحداث كانت نتيجتها مأسَوية"، وذكًر بأن "الأرمن كانوا آنذاك مواطنين في الدولة العثمانية".
اعتراف البيت الأبيض بـ"الإبادة " سبقه اعتراف نحو عشرين دولة، عبر برلماناتها، بهذه الإبادة التي ترفضها أنقرة منذ 108 أعوام، إن خلال الحكم العثماني أو بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
وتقول تركيا إن الأرمن تمردوا على الدولة العثمانية، التي كانوا مواطنين فيها، وتحالفوا مع روسيا، التي كانت تقاتل الدولة العثمانية حليفة ألمانيا.
ويتهم الأتراك أيضاً روسيا وبريطانيا وفرنسا بتحريض الأرمن، بعد أن وعدتهم بإقامة دولة أرمنية، شمالي شرقي تركيا الحالية. كما ناشد المسؤولون الأتراك، وآخرهم الرئيس إردوغان، الأرمنَ التخليَ عن مشاريعهم الخيالية، وإحالة هذه القضية على المؤرخين من كِلا البلدين من أجل الكشف عن الحقيقة عبر الاطلاع على وقائع هذه الأحداث في أرشيف الدولتين والدول الأخرى.
وكان الموقف التركي الإيجابي هذا، بوساطة الاتحاد الأوروبي، شجع عبد الله غول، عندما كان رئيساً للجمهورية، على زيارة يريفان لحضور مباراة كرة القدم بين المنتخبين التركي والأرمني، في الـ 6 من أيلول/سبتمبر 2008.
ولم تمنع الادعاءات المتبادلة بين يريفان وأنقرة كلاً من أرمينيا وتركيا من السعي لخلق أجواء إيجابية جديدة في العلاقات بين الدولتين، ليساهم ذلك في فتح الحدود المغلقة بين الدولتين وإحياء العلاقات التجارية عبر هذه الحدود، وخصوصاً بعد مجيء نحو 80 ألف أرمني للعمل في تركيا (يعيش فيها نحو 50 ألفاً من بقايا الحكم العثماني) في الأعوام الأولى من سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال أرمينيا.
ولم تكُن كل هذه المعطيات كافية لتحقيق الانفراج في العلاقات بين البلدين بسبب الدعم التركي لأذربيجان في أزمتها مع أرمينيا، فيما يتعلق بإقليم ناغورنو كاراباخ، الذي استرجعته باكو من الأرمن في الحرب التي نشبت بين الطرفين العام الماضي.
وقدمت تركيا، ومعها "إسرائيل"، دعماً كبيراً إلى أذربيجان بينما لم تقف أيّ من الدول الغربية إلى جانب أرمينيا، باستثناء بعض التصريحات التي صدرت عن مسؤولين أوروبيين وأميركيين، وهدفها تحريض يريفان ضد موسكو، بحيث كان الفتور والتوتر يخيمان على العلاقات بين العاصمتين بسبب سياسات رئيس الوزراء باشينيان، الذي استفزته العواصم الغربية ضد روسيا، على الرغم من مذهبه الأرثودكسي، وهو مذهب الروس أيضاً.
هزيمة يريفان في كاراباخ من المتوقع لها أن تُنهي أحلام الأرمن وذكرياتهم، التي حاربها اليهود الذين لا يريدون لأحد أن ينافسهم في احتكار التعاطف الدولي معهم بشأن ادعاءاتهم الخاصة بالمحرقة النازية، والتي كذّبها عدد من المؤرخين اليهود في أميركا وأوروبا، وحتى في "إسرائيل".
فعلى الرغم من أن التهجير، الذي تعرّض له الأرمن قبل نحو 35 عاماً من ظروف الحرب العالمية الثانية، فلقد نجح اليهود في الدعاية لـ"المحرقة" عبر سيطرتهم على شركات الإنتاج السينمائي والصحف، وحتى الجامعات في أميركا وأوروبا، وهو ما كان يفتقر إليه الأرمن. ووقفت منظمات اللوبي اليهودي في أميركا ضدهم دائماً، ودعمتهم أحياناً عندما كانت تتوتر العلاقات بين أنقرة و"تل أبيب".
في جميع الحالات، وأياً تكن ذكريات الأرمن مع الأتراك، ومقصود بهم الدولة العثمانية، فالواقع الذي تعيشه أرمينيا الآن لا يسمح لها بالتصعيد في هذا المجال، وخصوصاً بعد الهزيمة الكبرى التي مُنيت بها في إقليم كاراباخ، الذي هرب منه نحو 200 ألف أرمني. وأدى ذلك إلى أزمة لاجئين صعبة في العاصمة يريفان، التي تعاني أزمة صعبة، اقتصادياً ومالياً، وكانت أساساً السبب في مغادرة معظم سكان أرمينيا، وعددهم نحو ثلاثة ملايين، من أجل العمل في الدول المجاورة، وفي مقدمتها روسيا وجورجيا، وقليل منهم غادر إلى أوروبا، وخصوصاً فرنسا، ثم اميركا، بمساعدة الجاليات الأرمنية هناك.
ويبقى الرهان على المواقف السياسية لرئيس الوزراء الأرميني، باشينيان، الذي يبدو أنه لم يكتف بتوريط بلاده في الحرب مع أذربيجان، المدعومة من تركيا و"إسرائيل"، بل هو يستمر في سياسات الاستفزاز ضد روسيا.
ويذكًر ذلك الأوساط السياسية بموقف الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، الذي حرضته واشنطن والعواصم الغربية ضد موسكو، التي لم تتأخر في الرد على ذلك عبر اجتياح أوسيتيا الجنوبية، صيف عام 2008، وضمّها مع أبخازيا إلى روسيا. وفعلت ذلك مع كييف، التي استفزت موسكو وفق الأسلوب نفسه، في شبه جزيرة القرم والشرق الأوكراني عموماً، وهو ما أدى إلى الحرب بين البلدين في شباط/فبراير 2022، بعد المواقف الاستفزازية للرئيس الاوكراني زيلينسكي، ولقبته بأنه ممثل من الدرجة الثالثة.
ويبدو أن باشينيان لم يستخلص أي درس من تجارب الجارتين جورجيا وأوكرانيا، فلم يخسر كاراباخ فقط، بل خسر ذكريات أجداده، ولم يبقَ لهم سوى نصبهم التذكاري في أحد الجبال المطلة على العاصمة يريفان، التي وضعت صورة جبال أرارات الموجودة داخل حدود تركيا الحالية على أوراقها النقدية. ويبدو أن الأرمن باتوا يعتقدون أنها لا ولن تساعدهم بعد الآن على استرجاع حتى ذكريات أجدادهم، أياً تكن التسميات لما عانوه خلال الحكم العثماني!