"إسرائيل" تنزف..كيف أحدثت عملية "طوفان الأقصى" تصاعداً في الهجرة المعاكسة؟
خسرت "إسرائيل" في حربها مع حماس وحزب الله بعد استهدافهما مواقع حساسة فيها على مدار أربعة عشر شهراً، مشروعاً استراتيجياً كـ"دولة" تطمح إلى لمّ شمل يهود العالم.
ألقت معركة "طوفان الأقصى" بظلالها على واقع "إسرائيل" من الداخل، وطالت تداعياتها مناحي الحياة كافة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ورغم مضي أكثر من عام فإن "إسرائيل" فشلت في وقف النزيف الداخلي المستمر لهجرة العقول بسبب الحرب على جبهتين ساخنتين مع حماس في غزة وحزب الله في جنوب لبنان قبل أن تتوقف، كان حصادها و تداعياتها أكثر مرارة من الحرب نفسها، ناهيك بفاتورة الحرب التي بلغت 11 مليار دولار أميركي، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية، في وقت بات المستوطنون اليهود يعيشون حالاً من الإحباط من أجل مواجهة تداعيات الحرب السلبية المستمرة.
الهجرة المعاكسة في "إسرائيل"، ظاهرة قديمة- جديدة تعود إلى المشهد من جديد، كأحد أهم تداعيات "طوفان الأقصى" وأبرزها، تطفو على السطح لتكشف عن موجة حادة تستنزف أكثر عقولها تميّزاً كهجرة معاكسة إلى الخارج، إذ ارتفعت معدلات الهجرة الدائمة بنسبة 285% بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، وفقاً لما كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلاً عن المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، والذي أظهر أن المهاجرين بغالبيتهم هم أكثر الأفراد تعليماً وتأهيلاً في "إسرائيل"، وهم خبراء في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا الحديثة والطب والأعمال والاقتصاد والأوساط الأكاديمية المختلفة.
الملاحظ في الإحصائيات التي صدرت أن المستوطنين المغادرين "إسرائيل" بغالبيتهم هم من الأعمار الصغيرة بواقع تتراوح أعمار48% منهم بين 20 و 45 عاماً، فيما 27% منهم تحت سن 18.
وأوضح التقرير الإحصائي أن ترتيب المدن الخمس الأولى التي هاجر منها المستوطنون من الأكثر إلى الأقل كانت "تل أبيب" ثم "حيفا" فـ"نتانيا" بعدها القدس و"بات يام. "
وفق مصادر إحصائية حديثة في "إسرائيل"، أشارت إلى أن دولاً مثل ألمانيا والبرتغال وقبرص أصبحت تعدّ ملاذات آمنة للمستوطنين المهاجرين من "إسرائيل" والباحثين عن الاستقرار والأمان والمستقبل، وأصبحت الشركات العالمية تقوم بدور أساسي في نقل موظفيها إلى فروع في دول تعدّ أكثر استقراراً.
وتشير المصادر ذاتها إلى أن "إسرائيل" باتت تشعر بالتأثير الحاد لفقدانها أفضل مواهبها وكفاءاتها، ويتوقع الخبراء أن تعرض هذه الظاهرة مكانة "إسرائيل" كرائدة في مجال التكنولوجيا للخطر الحقيقي.
الشاهد هنا في هذا السياق أن ظاهرة الهجرة المعاكسة لم تتوقف على هجرة العقول فحسب، بل طالت شخصيات أدبية وكتّاباً معروفين تخلوا عن إسرائيليتهم لمواقفهم ومعارضتهم استمرار حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
إحصائية حديثة صدرت مؤخراً كشفت عظمة "طوفان الأقصى" وما أحدثه من تغييرات داخل "إسرائيل" بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، وبحسب مكتب الإحصاء الوطني في "إسرائيل"، فقد غادرها في العام 2024، (82,700) مستوطن إسرائيلي، فيما عاد إليها 23,800 مستوطن.
وأشار مكتب الإحصاء إلى أن رصيد المستوطنين الإسرائيليين المهاجرين من "إسرائيل" سلبي ويبلغ 58.900 ألفاً أكثر من الذين خرجوا في أكتوبر 2024 وحده، وهو الشهر الذي زعم فيه نتنياهو تحقيق انتصارات عظيمة في لبنان، إذ تم تسجيل رقم قياسي وكان رصيد الهجرة سلبياً بأكثر من 10 آلاف مستوطن إسرائيلي.
الإحصاء نفسه قدّر عدد سكان "إسرائيل" حالياً بـ 10 ملايين و27 ألف نسمة، منهم 7,707,000 يهودي (76.9% من السكان)، و2,104,000 عربي (21%)، و216 ألف أجنبي (2.1%).
نشر هذه الإحصائيات أشار بشكل صريح إلى زيادة حادة في ظاهرة الهجرة المعاكسة في "إسرائيل"، وهذا يضعنا أمام حقيقة واضحة ومهمة، تشير إلى أن أهم مفاعيل "طوفان الأقصى" بات يؤتي أُكله عملياً، ويتمثل في أن المستوطن الإسرائيلي بات يواجه مستقبلاً مجهولاً، وأن مفهوم إرادة البقاء بات شيئاً من الماضي يتعارض استراتيجياً مع فكرة قيام "إسرائيل" ككيان على أرض فلسطين أو كأرض ميعاد فيها الأمن والأمان والاستقرار والازدهار.
خسرت "إسرائيل" في حربها مع حماس وحزب الله بعد استهدافهما مواقع حساسة فيها على مدار أربعة عشر شهراً، مشروعاً استراتيجياً كـ"دولة" تطمح إلى لمّ شمل يهود العالم، ولم تعد القبلة التي يتوافد إليها اليهود لتحقيق الحلم والمستقبل. وتشير صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى أن تصاعد وتيرة الهجرة المعاكسة رافقه نقل الأموال والشهادات الأكاديمية والمهارات الفنية، وما يؤثر سلباً في مستقبل "إسرائيل".
يعيش الكيان حال استنزاف مستمر، عنوان تندرج فيه كثير من التفاصيل والأحداث المؤلمة، ولأول مرة، وهذا ما كشفت عنه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أن من أهم دوافع قبول "إسرائيل" باتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي هو حال النزيف البشري غير المسبوق في تاريخها وما شهدته آلتها الحربية من خسارة مماثلة، وهذا ما أكده نتنياهو في تصريحات تبريره لقبول الاتفاق هو الحاجة إلى تجديد مخزون الأسلحة والمعدات، وهذا معناه أن "إسرائيل" خسرت في حربها مع حماس وحزب الله، بشرياً وعسكرياً، وهي مرتكزات هامة في أي حرب ممكن أن تخوضها، وهذا يجسد تهشيماً لصورة "إسرائيل" التي لطالما تباهت بأنها صاحبة القوة العسكرية التي تمتلك "جيشاً" قالت إنه لا يقهر ناهيك بسقوط مفهوم الردع وتلاشيه بشكل كبير، وهذا يعدّ انتصاراً استراتيجياً لحماس وحزب الله في تهشيم هذه الصورة التي لطالما أرعبت فيها "إسرائيل" العالم والمنطقة العربية على وجه التحديد.
نتنياهو يواجه خسارة استراتيجية ومأزقاً سياسياً حقيقياً لن يستطيع إخفاءه، رغم تسويقه لمكاسب عسكرية تكتيكية حققها في هذه الحرب، لكنه فشل في حصاد ثمارها بسبب ضربات القوات المسلحة اليمنية، ولا سيما بالصواريخ الباليستية التي أفسدت هذا الحصاد، أما خسارة "إسرائيل" بمكوّناتها فلن تتوقف عند هذه الخسائر الاستراتيجية فحسب، بل هي على موعد مع تحوّلات جذرية داخلية كبيرة، في تركيبتها البنيوية، سياسياً واجتماعياً على وجه الخصوص، وستترك "طوفان الأقصى" تأثيرات وتداعيات لن تجعل من "إسرائيل" كما كانت قبل السابع من أكتوبر، وهذا ما تدعمه كل مؤشرات استطلاعات الرأي التي تجري بين الحين والآخر، من المستقبل المجهول، إلى التهديدات المستمرة وفقدان الأمن وتلاشي الردع واستمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا كله يزيد من حدة النزيف المستمر، إذ إن الحرب على غزة ولبنان أظهرت حقائق جديدة في المشهد، أبرزها هشاشة الوضع الأمني والداخلي من جوانب عديدة، وهو ما أفرز واقعاً جديداً عنوانه الهجرة المعاكسة، غياب الأمن والاستقرار وفقدان المستقبل، وهذا ما سيفرض على "إسرائيل" البحث عن تبني استراتيجيات جديدة لمعالجة الانهيار الذي وصلت إليه بفعل الموجة الحادة للهجرة المعاكسة وفقدان الثقة في المستقبل.