"إسرائيل" ودول عربية: التطبيع الاقتصادي لتغيير المزاج الشعبي

للتطبيع الاقتصادي العربي مع الكيان الصهيوني عدة أشكال وصيغ أفرزتها تجارب السنوات والعقود الماضية، وهو لا يأخذ شكلاً واحداً إنما له أوجه وأشكال متعددة.

  • التطبيع الاقتصادي مع
    التطبيع الاقتصادي مع "إسرائيل".

حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان التطبيع الاقتصادي مع "إسرائيل" لا يزال فعلاً محرماً شعبياً ومستبعداً حكومياً، وهذا حتى بالنسبة إلى الدول التي أبرمت اتفاقيات تطبيع (مصر والأردن).

وإذا كانت هناك خروقات من بعض الدول، فقد كانت محدودة وذات طابع سري من جهة أو كانت تجري عبر طرف ثالث من جهة أخرى. والدليل على ذلك أن إجراءات المقاطعة العربية بدرجاتها المختلفة كانت لا تزال فاعلة ومؤثرة مؤسساتياً. وبهذا، يمكن القول إن التطبيع الاقتصادي في فترة ما قبل تسعينيات القرن الماضي كان مرهوناً بتطبيع سياسي من نوع ما أو لنقل إنه كان محاولة تكريس أو تجسيد للتطبيع السياسي.

أما في المرحلة اللاحقة التي بدأت مع الألفية الجديدة، فقد تحول التطبيع الاقتصادي إلى ما يشبه اختباراً لحسن نيات أو إجراء غايته كسر حاجز "الجليد" الشعبي والرسمي حيال مسألة التطبيع، بدليل أن معظم الاتصالات السياسية عالية المستوى بين أي حكومة عربية و"تل أبيب" جاء بعد فترة طويلة من "تعاون" اقتصادي مباشر أو غير مباشر، مضبوط أو مفتوح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاقيات "السلام" التي وقعت قبل نحو 3 أعوام.

أشكال متعددة

للتطبيع الاقتصادي العربي مع الكيان الصهيوني عدة أشكال وصيغ أفرزتها تجارب السنوات والعقود الماضية، وتالياً فهو لا يأخذ شكلاً واحداً، كما يروج ويشاع عادة، إنما هناك أوجه وأشكال متعددة يمكن إيجازها بالنقاط التالية:

- وقف العمل بإجراءات مكتب المقاطعة العربية لـ"إسرائيل" من الدرجتين الثانية والثالثة، وذلك من خلال غض النظر تدريجياً عن الشركات الأجنبية التي تستثمر مع "إسرائيل" أو تتعامل معها، والسماح لمنتجات تلك الشركات بالدخول إلى الأسواق العربية أو إجازة التعامل معها. هذا التطور أسهم بشكل مباشر في زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني. 

وكذلك الأمر في ما يتعلق بالشركات الأجنبية التي تشحن بضائعها من خلال المنافذ الإسرائيلية، وتصنف ضمن إجراءات المقاطعة من الدرجة الثالثة، إذ لم يعد هناك أي مشكلة في أن ترسو سفينة في ميناء عربي آتية أو مرت بميناء صهيوني وغير ذلك.

- المشاركة في فعاليات واجتماعات ومؤتمرات ومعارض اقتصادية إقليمية ودولية تحضرها وفود إسرائيلية رسمية أو غير رسمية. وسابقاً، كان مثل هذا الأمر غير ممكن تحت أي ذريعة. وغالباً ما كان يتطلب موقفاً عربياً تعبر عنه الجامعة العربية أو عدة دول مجتمعة.

- السماح بدخول بعض البضائع والسلع الإسرائيلية المصدرة عبر دولة إقليمية ثالثة، كقبرص مثلاً، إلى أسواق بعض الدول العربية. وهناك تقديرات منشورة تتحدث عن أرقام كبيرة سجلها مثل هذا النوع من الصادرات الإسرائيلية قبل دخول الألفية الجديدة وخلال السنوات الأولى منها، وهذا ما تؤكده البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاء الإسرائيلية، التي باتت تتحدث منذ مطلع الألفية عن توجه صادرات إسرائيلية إلى بعض الدول العربية التي لا تربطها معها اتفاقيات "سلام" أو علاقات دبلوماسية، مثل تونس والمغرب وقطر والإمارات العربية المتحدة. وبدرجة أقل: السعودية والعراق والكويت وعمان.

ووفقاً لتصريح نسب إلى وزير الخارجية القطري عام 1996، فإن قيمة الصادرات الإسرائيلية عبر قبرص إلى دول الخليج العربي بلغت نحو ملياري دولار سنوياً.

- زيارة الوفود الاقتصادية الإسرائيلية إلى بعض الدول العربية بذريعة المشاركة في مؤتمرات إقليمية ودولية اقتصادية أو لبحث مستقبل التبادل التجاري الثنائي الذي أخذ بعداً جديداً مع افتتاح "تل أبيب" عدة مكاتب اتصال أو تمثيل تجاري في بعض الدول، كقطر وغيرها، فضلاً عن عدم التدقيق في دخول الإسرائيليين إلى بعض الدول العربية بجوازات سفر غير إسرائيلية.

- السماح بدخول سلع وبضائع أجنبية عبر المنافذ الإسرائيلية البحرية، وخصوصاً خلال سنوات الأزمة السورية وما رافقها من توقف حركة الترانزيت البري. وكما ذكرنا في المقال المتعلق بمشروع "الممر العظيم"، فإن التقديرات الإحصائية العربية تتحدث عن أن 25% من التجارة التركية مع دول الخليج تتم عبر مرفأ حيفا المحتل.

- المبادلات التجارية المباشرة التي كانت تزداد تدريجياً مع تفتت جدار المقاطعة العربية وانفتاح الأسواق العربية على العالم من دون أي قيود أو استثناءات. وغالباً ما تستحوذ الصادرات الإسرائيلية على تركيبة هذه المبادلات لأسباب عدة. 

وبحسب تقرير إحصائي إسرائيلي يرصد الأثر الاقتصادي لتوقيع اتفاقيات "السلام" الأخيرة من حيث المبادلات التجارية، فإن قيمة "التجارة مع الإمارات العربية المتحدة ارتفعت من نحو 50.8 مليون دولار بين شهري كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو من عام 2020 إلى نحو 613.9 مليون دولار في الفترة نفسها من عام 2021". 

ومع الأردن، "زادت من نحو 136.2 مليون دولار إلى نحو 224.2 مليون دولار، فيما زادت مع مصر من نحو 92 مليون دولار إلى نحو 122.4 مليون دولار، ونمت التجارة مع المغرب من نحو 14.9 مليون دولار إلى نحو 20.8 مليون دولار"، كما ورد في التقرير.

أما البحرين، فقد كانت "التجارة المباشرة معها منعدمة كلياً في الأشهر السبعة الأولى من عام 2020. وخلال الفترة نفسها من عام 2021، تم تسجيل نحو 300 ألف دولار في التجارة معها"، بحسب التقرير. هذه البيانات تؤكد وجود مبادلات تجارية قبل توقيع اتفاقيات التطبيع المذكورة.

لا يستردّ بالتطبيع

في السنوات الأخيرة، أخذ التطبيع الاقتصادي الممهد لتطبيع سياسي ينحو باتجاه أشكال جديدة، منها على سبيل المثال السماح للخطوط الجوية الصهيونية بعبور أجواء بعض الدول العربية وزيارة مسؤولين اقتصاديين إسرائيليين لبعض الدول العربية. 

الشكل الأخطر تمثل في اعتماد الموانئ الإسرائيلية كنافذة شرق متوسطية لمشروع "الممر العظيم" الذي تم الإعلان عنه مؤخراً، وهذا من شأنه حصر جزء ليس بالقليل من تجارة الترانزيت الإقليمية والدولية بالموانئ الصهيونية على حساب الموانئ السورية واللبنانية، وحتى المصرية، لكن هل يمكن للتطبيع الاقتصادي بأشكاله المشار إليها سابقاً أن ينجح اليوم في التمهيد لتطبيع سياسي يكون مدعوماً أو متقبلاً شعبياً؟

لا تعمل "تل أبيب" وحدها على محاولة إحداث تطبيع سياسي مع ما بقي من دول عربية عبر البوابة الاقتصادية، فهناك عدة دول عربية تساعدها على تحقيق ذلك وفق سياسة باتت مكشوفة. ولذلك، إن الإجابة عن السؤال السابق تفرض مراعاة بعض النقاط التالية أو مقاربتها مع المؤشرات المتاحة حالياً. 

هذه النقاط هي:

- فتح قنوات للتطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني يعني عملياً أن التطبيع السياسي بات محسوماً، إلا أنه بانتظار التوقيت المناسب للإعلان عنه. والمقصود بالتوقيت المناسب هنا هو ضمان وجود مزاج شعبي متقبل لهذه الخطوة، والتطبيع الاقتصادي هو إحدى الخطوات التي يعمل من خلالها على تغير هذا المزاح باتجاه محدد وصريح.

- بعض مشروعات التطبيع الاقتصادي الراهنة تحتاج إلى وقت ليس بالقليل حتى تجد طريقها إلى التنفيذ، فضلاً عن مدى جدية الأطراف المعنية بعملية التنفيذ، والمثال على ذلك هو مشروع "الممر العظيم" الذي يحتاج إلى تمويل كبير من جهة، وإلى إرادة دولية تخرجه إلى حيز الوجود من جهة أخرى، وإلا فإن التطبيع الاقتصادي سيكون معرضاً لانتكاسة ليست سهلة، كما حصل مع الرفض الشعبي المصري والأردني للتطبيع مع الكيان الصهيوني بأشكاله شتى، وهذا ما نأمله.

- استمرار احتلال "إسرائيل" للأراضي العربية وتبنيها سياسة عدوانية يجعل جميع أشكال التطبيع السياسي والاقتصادي مهددة دوماً بالانهيار أو على الأقل بالتراجع، وإن عكست الأجواء العامة في المنطقة غير ذلك. مثلاً، مع انتفاضة الشعب الفلسطيني بداية الألفية الجديدة ورفض "تل أبيب" مبادرة "السلام" العربية التي أعلنتها قمة بيروت عام 2002، تراجعت قيمة المبادلات التجارية الإسرائيلية مع الدول العربية بشكل كبير، وأغلقت كل من قطر وتونس والمغرب وعمان مكاتب الاتصال الإسرائيلية فيها، الأمر الذي يعني أن كل أشكال التطبيع غير مستقرة ومعرضة للتفجير إذا لم تتم معالجة جذر الصراع في المنطقة.

- قد تنجح الدول في إحداث اختراق في الطريق نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، إلا أن الشعوب عادة ما تعارض ذلك عندما لا تلمس أي فائدة حقيقية له مع مرور الوقت، سواء لجهة انعكاس ذلك على حل القضية الفلسطينية أو لجهة المؤشرات الاقتصادية الناتجة منه. حالياً، كل أشكال التطبيع الاقتصادي تصب في مصلحة "إسرائيل" ومشروعاتها وخططها، فيما الدول العربية ليست أكثر من متلقٍ أو مستهلك للنتاج الإسرائيلي.

التطبيع والخراب

عملياً، لم يعد هناك سوى ما يقارب 6-7 دول عربية لم تدخل في دائرة التطبيع الاقتصادي المؤدي إلى تطبيع سياسي مع "إسرائيل"، إنما يعاني معظم هذه الدول من ضغوط وأزمات اقتصادية بات يروج بين الأوساط الشعبية أن المخرج الوحيد منها هو السير في ركب التطبيع الاقتصادي، والاستفادة من منافع المشروعات الإقليمية والدولية المدعومة غربياً، والحصول على مساعدات خارجية، لكن تجربة بعض الدول المطبعة كانت تشي بغير ذلك. 

الأراضي العربية المحررة في فلسطين والخاضعة اليوم للسلطة الوطنية الفلسطينية مثلاً لم تحصل على المساعدات الكافية لجعلها مزدهرة، كما كان يروج، وهذا هي حال مصر أيضاً في أعقاب توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السودان الذي دخل في نزاع مدمر عوضاً عن رفع العقوبات عنه، كما كانت قيادته العسكرية تأمل.