نموت ولا نتجنّد.. الحريديم على مفترق طرق
تأخذ قضية تجنيد الحريديم أبعاداً قضائية وسياسية، ويتم طرحها الآن باعتبارها حيوية للحرب، وتمس بنية المجتمع بعد تضخم نسبة الحريديم فيه، في ظل شرخ عميق بين اليمين المتشدد ويمين الوسط.
ظهرت إشكالية تجنيد المتدينين اليهود في "الجيش" الإسرائيلي منذ أن تأسس هذا الكيان على أطلال الشعب الفلسطيني عام 1948. وقد حرصت الحركة الصهيونية بقيادة ديفيد بن غوريون، مؤسس الكيان، على لمّ شعث كل يهود العالم ليستوطنوا فلسطين، وكان لهذه الهجرة الأولوية المقدمة على كل التناقضات.
لهذا، تم استقطاب اليهود الأرثوذوكس من كل أحيائهم المغلقة في العالم "الغيتوات" من نيويورك حتى أوكرانيا وبولندا وروسيا وإيطاليا، رغم التناقض العميق بين الطرفين في الرؤية السياسية والفكرية.
قامت دولة "إسرائيل" على أساس عسكري، نظراً إلى وظيفتها في المشروع الغربي الاستعماري. ورغم ذلك، تم قبول الحريديم للانغلاق على التعليم التوراتي في مجتمعات خاصة بعد هجرتهم إلى فلسطين، والحريديم لفظ يقصد منه اعتزال الناس بالأساس من باب التقوى، مع إعفائهم الكلي من التجنيد العسكري، ولم تكن نسبتهم تتجاوز 5% في ذلك الوقت. وقد استقر غالبيتهم في العقود الأولى في بني براك من "تل أبيب"، ومئة شعاريم من القدس، في وقت يتوجب على كل إسرائيلي الخضوع للتجنيد الإجباري؛ الذكر لثلاث سنوات، والأنثى لسنتين.
"عبء الخدمة يشكل تحدياً منذ 75 عاماً، ويأتي الآن في زمن حرب لم نعرفه منذ 75 عاماً. لذلك، نحن مطالبون بالتوصل إلى اتفاقات وقرارات لم نتخذها منذ 75 عاماً". بهذه الكلمات وصف وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالنت أزمة تجنيد الحريديم المتفاقمة في ظل أخطر حرب يخوضها كيانه.
وكانت الحرب الطويلة في غزة أيضاً قد لفتت انتباه حركة "من أجل جودة الحكم في إسرائيل" إلى الحاجة الماسة لتوسيع نطاق التجنيد ليشمل جميع أطياف المجتمع الإسرائيلي، بحسب تعبير هذه الحركة. وقد أضافت: "المساواة في العبء ليست شعاراً، بل هي ضرورة استراتيجية وأمنية. هذا المطلب بالمساواة الحقيقية في التجنيد يجب أن يتقاسمه كل من يحمل هذا البلد العزيز في قلبه". لهذا، توجهت هذه الحركة إلى المحكمة العليا في الأسبوع الماضي، بهدف إلزام "الحريديم" بالتجنيد، وهم الذين تقتصر حياتهم على التعليم الديني اليهودي والتناسل في مجتمعات مغلقة عليهم.
إنها غزة إذاً. ما زالت تقتحم على الكيان العبري كل جوانب حياته، فتقض مضجعه، وهي التي تتعرض لعدوان وحشي منذ ما يزيد على 151 يوماً، في وقت ترتد هذه الحرب على البنية الأساسية للكيان، لتشعل كل تناقضاته الداخلية، ونحن اليوم بصدد تناقض جوهري في أيديولوجية "إسرائيل"، وهو تناقض عميق يطال شرعية الدولة في رؤيتها الفكرية السياسية، كما مؤسستها العسكرية. وقد طال أمد هذا التناقض حتى هاج طوفان الأقصى، فتكشف عري الكيان العبري، وصارت قضية التجنيد في مقام المجتمع الإسرائيلي الأول.
شكّلت الزيادة العددية للحريديم في ظل تناسلهم الواسع، نظراً إلى أنهم يؤمنون بوجوب الزواج وحرمة وقف النسل بخلاف الغالبية العلمانية الليبرالية، حتى تجاوزت نسبتهم 15% من مجموع اليهود، وصاروا عبئاً يثقل كاهل الكيان، وهو ما دفع المحكمة العليا عام 2018 إلى إلزامهم بالتجنيد من باب المساواة، ولكن الحكومات اليمينية المتعاقبة ظلت تصدر قوانين تعليق التجنيد بحقهم لمصالح سياسية مباشرة، فما هذه المصالح؟ وهل يمكن المضي قدماً في هذا السبيل؟
لا يؤمن الحريديم بالعمل السياسي، ولا بالنظام الديمقراطي، ويؤمنون بالشريعة اليهودية القديمة، ولكن مشكلة التجنيد ظلت تحتل المقام الأول في اهتمامهم، إضافةً إلى حيوية المدارس الدينية. لهذا حرصوا على صب أصواتهم الانتخابية في بعض الأحزاب السياسية لضمان رعاية مصالحهم، وخصوصاً حزب "هديجل هتوراه" المكوّن من اليهود الأشنكاز الغربيين، وحزب "شاس" المكون من اليهود السفارديم الشرقيين، وكلاهما حصل في انتخابات الكنيست الأخيرة عام 2022 على 18 عضواً من أصل 120 عضو كنيست، ولا علاقة لهما بالصهيونية الدينية وغلاة اليمين بقيادة بن غفير وسموتريتش، فهما يمين ديني تقليدي، وليسا يميناً دينياً وطنياً، رغم التقاطع بين الطرفين على صعيد التطرف الديني الشعائري.
لماذا يرفض الحريديم التجنيد، إلى درجة أنهم صرخوا بالموت ولا التجنيد في تظاهرة صاخبة قبالة المحكمة العليا قبل أيام؟
استغرب كثيرون أن ألفي حريدي تجندوا طوعاً بعد السابع من أكتوبر، بعد وضع كتيبة خاصة تخضع لميولهم النفسية والمعيشية، ولكن ذلك لم يحل دون بقاء هذه القضية عالقة، حتى فجّرها وزير الحرب غالنت في خطاب متلفز من مقر وزارته في "تل أبيب"، بقوله: "إننا نعتز ونقدّر أولئك الذين يكرسون حياتهم لتعلم التوراة، ومع ذلك، بدون وجود مادي، لا يوجد وجود روحي، تثبت التحديات الأمنية التي نواجهها أن على الجميع أن يتحملوا عبء الخدمة؛ جميع شرائح المجتمع. ولتحقيق أهداف الحرب، وللتعامل مع التهديدات القادمة من غزة، ومن لبنان، ومن الضفة الغربية، والاستعداد للتهديدات الناشئة من الشرق، نحتاج إلى الوحدة والشراكة في القرارات المتعلقة بمستقبلنا".
تتعدد أسباب نفور الحريديم من التجنيد العسكري، ولعل أهمها ينطلق من نمط حياتهم المتدين وتعارضه مع الأعراف العسكرية وتناقضه الأيديولوجي مع الدولة الليبرالية، ومهمة الحريديم تقتصر على الانشغال بدراسة تعاليم اليهودية والشرائع التوراتية، وأن التفرغ لدراستها لا يقل أهمية عن الخدمة العسكرية، في وقت يصعب الحفاظ على التدين والتعاليم اليهودية بسبب الاختلاط في "الجيش"، وخصوصاً أنهم يلتزمون بنصوص توراتية تخصّ الفصل بين الجنسين وتمنع الاختلاط والعلاقات بين الرجال والنساء، ويلتزمون بيوم السبت اليهودي، إذ لا يعملون فيه ويخصّصونه لزيارة الكنس وقراءة التوراة فقط، ويرون أن دراسة التوراة سلاح روحاني لحماية "شعب إسرائيل".
يقف الكيان العبري على أعتاب أزمة مؤجلة. وقد حان حسمها رغم أجواء الحرب التي تخيم على كل شيء في الكيان، والحرب ذاتها تدفع الأزمة قدماً نحو الحسم، في وقت تتكئ حكومة الحرب على أحزاب حريدية يمكنها إسقاطها، وهي بالأساس دخلتها لتحافظ على امتيازاتها بعدم التجنيد لتفريغ شبانها للتعليم الديني حتى بلوغ سن الأربعين بحسب الشريعة.
تأخذ قضية تجنيد الحريديم أبعاداً قضائية وسياسية، ويتم طرحها الآن باعتبارها حيوية للحرب، وتمس بنية المجتمع بعد تضخم نسبة الحريديم فيه، في ظل شرخ عميق بين اليمين المتشدد ويمين الوسط، بما ينبئ باحتمال تصاعد المواجهة بين كل الأطراف المتباينة، وإن اختلفت النيات، في ظل حرب تشعل الفتيل في كل ما تبقى من تناقضات ساكنة في مجتمع هش يفتقد للشرعية، كما بات يبحث عن الأمن من دون طائل.