في البدء كانت الفكرة
لا شك في أن الفكرة هي أساس تقدّم العلوم، وأن تطوير المفاهيم هو السبيل الوحيد إلى التطوّر الإنساني، إذ لا يمكن إحداث فرق في أي مجال من مجالات الحياة من دون رؤية، وتصوّر، وأفكار.
كان الشاعر الإنكليزي، بيرسي بيش شيلي (1792-1822) تلميذاً نجيباً لأفلاطون وسقراط ومتعمقاً في الفلسفة اليونانية، وكان يؤمن بأن كل ما ينتجه الإنسان هو تقليد للفكرة الأصلية، التي هي أصل الأشياء، والتي قلما تتجلّى بصورتها الحقيقية مهما حرص الإنسان على ذلك. وبهذا المعنى أصبحت القصيدة التي يكتبها الشاعر تقليداً للتقليد كما سمّاه شيلي؛ فإذا كانت القصيدة تتحدّث عن لوحة فنية أو عمل مبهر جميل، فإن هذا العمل مهما بدا جميلاً هو تقليد للفكرة والمفهوم الأصلي، الذي ولد في ذهن الفنان أو الصانع، والذي حاول نقله وتقليده من خلال منتجه. أما القصيدة التي تتغنى بهذا العمل فهي مزاحة مرتين عن الفكرة الأصلية الجوهرية والمهمة.
يحاول هذا المفهوم من خلال كتابات غنية ومشوّقة أتحفنا بها الشاعر شيلي، الذي أصبح شعره بعد وفاته ملهماً للحركة التشارتية العمالية في بريطانيا، التي كانت أول حركة عمالية في العالم تطالب بالعدل والمساواة للطبقة الكادحة، يحاول شيلي أن يقول: إن الفكر هو أساس الحياة وإن منتجي الأفكار والمفاهيم المبدعة قد حباهم الله بصفات، على البشر جميعاً أن يبجلّوها لأنها تشكل بنداً أساسياً من بنود تطور وتحضّر المجتمعات الإنسانية. وقد حاول الشاعر شيلي من خلال التعمّق في هذا المفهوم واطّلاعه الموسوعي على الفلسفة اليونانية، أن يجعل التعمق في هذا المفهوم سلاحه في تحريك المظلومين للثورة على الظلم واسترجاع حقوقهم من الظالمين، ولكن أفكاره قوبلت بالرفض الشديد في ذلك الوقت، وطُرد من جامعة أوكسفورد، فيما تحتضن اليوم الجامعة تمثالاً له وتمجّد عظمته وأهمية مكانته الأدبية والفكرية في الأدب الإنكليزي، وهذه حال المصلحين دائماً عبر التاريخ وفي كل الأمم.
لا شك في أن الفكرة هي أساس تقدّم العلوم، وأن تطوير المفاهيم هو السبيل الوحيد إلى التطوّر الإنساني، إذ لا يمكن إحداث فرق في أي مجال من مجالات الحياة من دون رؤية، وتصوّر، وأفكار تكون هي المرشد والموجّه لخطوات العمل التالية.
ولا شك في أن العرب في مراحل مزدهرة من تاريخهم اهتموا جداً بالإنتاج الفكري والكتب والمكتبات والإبداع العلمي والفني والأدبي والترجمة -خصوصاً عن اليونانية- ونقل المعارف، لأن القناعة المؤكّدة لديهم كانت أن المعرفة هي أساس التقدّم في جميع المجالات، وأنها السبيل الوحيد إلى تطوير الحياة الإنسانية وتحقيق إنسانية ورفاهية المجتمع في أجمل صورة. واستمرت هذه الحقبة ثلاثمئة عام نفخر بها اليوم من تاريخنا، حين أحدث أجدادنا نقلة نوعية في تقدّم البشرية الفكري في مختلف المجالات.
واليوم، إذا ما ألقينا نظرة سريعة على حركة التقدّم في عينة عشوائية من الدول والشعوب، نجد أن الدول التي حققت تقدماً ومكانة على الساحات الإقليمية والدولية، هي الدول التي أبدعت وأنجزت وتفوّقت في إنتاج أبحاث العلوم والفكر في المجالات كافة، وهي نفسها الدول التي استثمرت أيما استثمار في فكر الإنسان المبدع، ووفّرت له كلّ وسائل التميّز والإنتاج. فجميعنا يعلم أن الولايات المتحدة الأميركية، -على سبيل المثال لا الحصر- تحصد كل عام أغلب الجوائز في البحث العلمي في مجالات مختلفة، وتحصد أكبر عدد من الجوائز العلمية والفكرية، وتقود فعلاً في هذه المجالات، ذلك أن الولايات المتحدة انتهجت، ومنذ عقود، سياسة استقطاب الأدمغة من كل دول العالم، وتقديم جميع المغريات والتسهيلات لهم، ليتمكنوا من استثمار وقتهم كاملاً في الإبداع والإنتاج وإتحاف العالم بنتائج ابتكاراتهم. وما نهضة الصين وإيران والهند مثلاً إلا لتأكيدها الأساسي والدائم لأولوية الإبداع الفكري في تحقيق تقدّم شعوبها ومنعة بلدانها.
إضافة إلى القيمة الفكرية لهذه الحالة، فإنها أيضاً تجارة رابحة، لأن الإنتاج الفكري المبدع باهظ الثمن، ولا يمكن أن يستغني عنه أحد على هذا الكوكب أو يستخفّ بدوره. ونلاحظ أن أغنى أغنياء العالم اليوم، هم من طوّروا أفكاراً فأصبحت خدمات تقنية، ووسائل اتصالات، وأساليب حياة غيّرت مجرى حياة البشر، واستبدلت ثقافتهم بثقافتها، وأصبحت "لزوم ما يلزم" للبشر، وتكاد تكون طبيعة ثانية لهم. ونلاحظ اليوم أن من يبدع ويطوّر في هذه المجالات يقود سفينة البشرية حيث يشاء، ومن بقي متخلفاً عن الركب نسيه الركب والمستقبل الموعود.
من هذا المنظور نرى أن الأمة العربية اليوم، أقلّ الأمم إنتاجاً للفكر والإبداع، لا بل وأقلّ الأمم اهتماماً بالمفكّرين والمبدعين والخلّاقين، لا بل أصبحت البيئة العربية طاردة للإبداع والمبدعين مذ أحرقت كتب ابن رشد، وقُتل العلماء الكبار الذين نفخر بهم اليوم، ولا برهان على ذلك أوضح من أن شباب العرب من المغرب إلى العراق يكبرون على حلم مغادرة بلاده، وإيجاد فرصة عمل أو إبداع في مجتمع آخر أو دولة أخرى. وهكذا فقد دخل العرب ومنذ قرون في حلقة مفرغة؛ إذ كلما هاجرت الكوادر القادرة على الخلق، شحّ الإنتاج الفكري والمساهمة على الساحة الإبداعية، وكلما قلّت هذه المساهمة ونضبت الموارد البشرية، ازداد الواقع تخلّفاً وعجزاً عن إصلاح نفسه؛ إذ لا حضور اليوم في العالم لمراكز أبحاث عربية، ولا لجامعات عربية، ولا لمبدعين عرب، إلا لمن نسبوا أنفسهم إلى بلدان أخرى وحملوا اسمها وجوازات سفرها ووضعوا إبداعاتهم في خدمتها.
الحلّ الوحيد اليوم للخروج من هذا الواقع العربي الرديء بكلّ المقاييس، يكمن في إعادة الاعتبار إلى الفكر والإبداع، وفي وضع سياسات وإستراتيجيات تستقطب من غادر وتحافظ على من بقي وتوفّر الشروط الأساسية، التي لا بدّ منها للإبداع والتميّز والعطاء الخلّاق.
إن العمل من أجل التطوير من دون المبادرة من البداية، من الفكرة ومنتجي الأفكار، إنما هو تخبّط في ظلام دامس لن يقود إلى إنارة الطريق الذي نبتغي ونرجو، ولا شك في أن إصلاح التعليم، والتركيز على البحث العلمي، والإنتاج الفكري، والإتقان اللغوي كوسيلة للتفكير والإبداع، هي ممرات إجبارية إذا ما أردنا أن نحدث فرقاً حقيقياً في مستقبل أجيالنا ونحرز موقعاً للناطقين بالضاد على خريطة التقدّم والإبداع والتطوّر.
الفكرة الأساسية التي يحتاج إليها هذا المسار هي الاتفاق عليه أولاً، والجزم والقناعة بضرورته، ومن ثمّ، وضع الرؤى والإستراتيجيات والخطوات القادرة على تحقيق هذا الهدف. وهذا ليس صعباً أبداً إذا ما توافرت القناعة والإرادة، فالأمة العربية ولّادة للمبدعين على مرّ التاريخ، وهم مازالوا موجودين وقادرين على تحقيق هذا الطموح، الذي أصبح فعلاً ضرورة لابدّ منها، ولنتذكّر دائماً أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.