وحدها الحرب الأهلية تُعيد السعودية إلى لبنان
من يقفز إلى عبارة ابن فرحان الثانية، يتأكد أكثر فأكثر، إذ يقول إن المطلوب من الشعب اللبناني إنهاء سيطرة حزب الله على المشهد السياسي اللبناني، لكن كيف؟
لم يكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان يتحدث عن هيمنة حزب الله على لبنان، حتى انطلقت أبواق السعودية من كل حدبٍ لبنانيٍّ وصوب، لترديد العبارة الغبية نفسها، محاولين إقناع أنفسهم بأنَّ حزب الله يهيمن على لبنان أولاً، وأن هذه الهيمنة هي سبب بلاء الشعب اللبناني ثانياً، وهو ما يفرض التوقف عند كذبته هذه، لدحض ما يحاولون زرعه في الرؤوس اليوم، بالمنطق والأدلة دوماً:
· سياسة لبنان الماليّة يرسمها ويقرّها وينفّذها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (الأميركي الهوى والخلفية)، من دون تشاور مع أحد.
· سلطات لبنان القضائية يقودها ويتحكّم فيها رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود (الأميركيّ الهوى والخلفية أيضاً)، من دون تشاور مع أحد.
· سلطات لبنان الأمنيّة تقودها مؤسَّسة الجيش ومؤسَّسة قوى الأمن الداخلي، وعلاقة المؤسَّستين بالأميركيين أوطد على جميع المستويات مع السفارة الأميركية منها مع حزب الله.
· الفضاء الإعلامي اللبناني المحلي غير الحزبي تختزله التلفزيونات الثلاثة، (الجديد) و(المر) و(المؤسسة اللبنانية للإرسال)، التي تفتح هواءها بجميع برامجها من دون استثناء للتحريض على حزب الله وحلفائه. وغالباً ما يخصّص هؤلاء حلقات كاملة لشتم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، من دون أن يرفّ جفن للهيئات الرقابية أو القانونية أو الإعلامية.
· في الساحات اللبنانية والشوارع، يمكن لمناوئي حزب الله تنظيم تظاهرات شتامة ورفع الصور المسيئة وتعليق المشانق، فيما يحاولون منع حزب الله من تنظيم تظاهرة أو اعتصام أو وقفة احتجاجية.
· على مستوى الاستثمارات الخارجية، يؤكّد الصينيون والروس أنهم لا يفكّرون في الاستثمار في لبنان، لمعرفتهم بأن تسهيل الحكومة أو الوزير المعني لا يكفي، لأنَّ الإدارة اللبنانية تزدحم على جميع المستويات الوظيفية بأصدقاء الولايات المتحدة الذين يتقنون وضع العراقيل.
· حزب الله يهيمن على الدولة اللبنانية، لكنه يعجز عن إدراج بند واحد في جدول مجالس الوزراء المتعاقبة منذ أكثر من 10 سنوات، لبحث العروضات الإيرانية الخاصة بإنشاء معامل للكهرباء أو غيرها.
· حزب الله يهيمن على الدولة اللبنانية، لكن السفارة الأميركية تحضر في خلية طوارئ رسمية تابعة لوزارة الخارجية اللبنانية، وتذهب وتجيء بين المجالس البلدية والإدارات العامة والقضاة، فيما تصدر وزارة خارجيتها البيان تلو الآخر في ما يخص عمل القضاء اللبناني.
· حزب الله يهيمن على الدولة اللبنانية التي تسرح وتمرح فيها مئات الجمعيات غير المرّخصة، التي تحول لها الخزينة الأميركية وبعض الدول الأوروبية نحو ملياري دولار سنوياً، لإنفاقها من دون أي حسيب أو رقيب، بهدف تحقيق أجندات الممولين.
بناء عليه، إنَّ القرار المالي والقضائي والإداري والإعلامي والأمني والإنمائي هو أبعد ما يكون عن هيمنة حزب الله في أقل تقدير. أما كارتيلات الدواء والمواد الغذائية ومواد التنظيف والبنزين والمازوت والغاز والحديد والإسمنت والمقاولات، فهي معروفة أيضاً بولائها المطلق للأفرقاء المناوئين لحزب الله.
ومع ذلك، فإن فيصل بن فرحان يتحدث بكل وقاحة عن وجوب "تحرير لبنان من هيمنة حزب الله"، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد إلا "تحرير لبنان من حزب الله"، فوجود الأخير في لبنان هو ما يستفز الخارجية السعودية، وليس "هيمنته" على لبنان.
ومن يقفز إلى عبارة ابن فرحان الثانية، يتأكد أكثر فأكثر، إذ يقول إن المطلوب من الشعب اللبناني إنهاء سيطرة حزب الله على المشهد السياسي اللبناني، لكن كيف؟
طبعاً ليس بالوسائل الدبلوماسية، بدليل أن المملكة التي لا تؤمن بالدبلوماسية في حالات كهذه أنهت العلاقات الدبلوماسية مع لبنان، ولا بصناديق الاقتراع، لأن المملكة لا تريد استمرار الحكومة اللبنانية الضرورية لإجراء الانتخابات، ولا بـ"الأخذ والعطاء"، كما يفعل الرئيس سعد الحريري، بدليل نقمتها المتواصلة عليه.
كيف إذا؟ كما يفعل سمير جعجع الذي خصه السفير السعودي بآخر زياراته، تأكيداً على افتخارهم الشديد به، وكما فعل قبله بعض أفراد العشائر الذين غرر بهم، وكما فعل قبل هذا وذلك حشد التكفيريين الذين عبدت لهم المملكة الطرقات نحو منطقتنا.
المملكة العربية السعودية ملّت الوسائل الدبلوماسية والمفاوضات والبيانات وتشاطر اللبنانيين عليها؛ الأقربين قبل الأبعدين، فلا نفع لتغريدات الأمين العام السابق لقوى 14 آذار فارس سعيد ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل، ولا نفع لكل العراضات البطولية في مواقع التواصل الاجتماعي وكل الذباب الإلكترونيّ، ولا نفع للإعلانات التي تُنشر باسم الجالية اللبنانية في الصحف السعودية، ولا نفع لبيانات النواب اللبنانيين، أمثال نعمة طعمة (نائب جنبلاطي)، الذين يوزعون أسبوعياً البيان نفسه عن "طويل الباع"، ولا نفع لكل الغزل الذي يكتبه الإعلاميون والإعلاميات عن الأبراج والجسور وشبكات المجارير ومستوى السعادة والرفاهية، طمعاً بإقامة ذهبية هنا وهناك.
لا نفع لهذا كله، فالمعركة ليست افتراضية أو إعلامية أو إعلانية. لقد اقتنعت المملكة أخيراً بأن المعركة ميدانية بامتياز، وتحتاج إلى مقاتلين حقيقيين، لا مقاتلين افتراضيين، من بعيد إلى بعيد، تصلهم الريالات في ما هم في أسرّتهم يشاهدون آخر إصدارات "نتفليكس". في يد يأكلون الفوشار، وفي اليد الأخرى يغرّدون مهددين متوعدين.
من يقف فعلاً مع المملكة، عليه أن يستبدل "الشورت" بـ"يوفو" عسكري، ويستر صدره بـ"فيلد" زيتي، ويفتعل كميناً أو أية مواجهة من شأنها "إنهاء سيطرة حزب الله على المشهد السياسي اللبناني". ولاحقاً، بعد أن يفعل ما عجز المارينز، ثم "إسرائيل"، ثم "التكفيريون"، عن فعله، يمكن أن يراجع المملكة ليحصل على مكافأته، وتتكرم "مملكة الخير" بالعودة إلى لبنان.
هذا المواطن اللبناني الذي أمضى العمر عمرين لشراء شقة فخمة في عين الرمانة أو وسط بيروت أو الحدت أو فرن الشباك أو الأشرفية، أو بنى بيت أحلامه في بعبدا أو بيت مري أو بكفيا أو عجلتون أو بشري، ويريد انتزاع ثقة المملكة به، لا تكفيه تغريدة افتراضية، إنما عليه اقتلاع الأشجار الجميلة التي أحاط بها منزله لتثبيت المتاريس، ونصب "دوشكا" فوق السطح، ونشر القناصات خلف الشبابيك، وتوضيب ثياب زوجته والمرايا وكل الأحذية، تحضيراً لتهجير جديد أو نزوح، فاللبنانيّ (ة) الذي تبحث عنه المملكة ليس اللبنانيّ الجميل الذي يهتم بأناقته وبحسابه في "إنستغرام"، إنما اللبناني المستعد للموت من أجلها. اللبناني الذي تبحث عنه المملكة ليس اللبنانيّ الذي ينظم المهرجانات الصيفية، ويتباهى بالثلج الجبليّ، إنما اللبناني الذي يشمّر عن ساعديه ويشرع في القتال.
المملكة واضحة وحاسمة: في المال، لا توجد هيمنة لحزب الله، وكذلك في الإعلام والدبلوماسية والإعلان والقضاء والإدارة العامة والفضاء السياسي العام والعالم الافتراضي والكارتيلات والغناء، ولا حاجة بالتالي إلى إضاعة الوقت في هذه جميعها: إما تلعبون في ملعب حزب الله الحقيقيّ وإما أن المملكة لا تريد اللعب، إما حرب أهلية وإما لا شيء آخر. لا حلول وسط بعد اليوم.
وها هو الذكيّ ابن فرحان يذهب أبعد في عباراته المقتضبة، ليقول إن أصول الأزمة مع لبنان ترجع إلى "التكوين السياسي اللبناني الذي يعزز هيمنة جماعة حزب الله"، وهو يحدد المشكلة بالتالي بأنها مع النظام اللبناني، بديمقراطيته أولاً، وتوافقيته ثانياً، وميثاقيته ثالثاً.
هذه الديمقراطية التوافقية الميثاقية تستفز السعودية، فهي تريد نظام حكم آخر في لبنان. وعند التدقيق، سيتبين أن ما يقوله بعض الحمقى السعوديين على شاشات التلفزيون، يقوله ابن فرحان نفسه بطريقة دبلوماسية: نريدكم جزءاً من المملكة، وعلى صورتها ومثالها: نظام ملكيّ أكثريّ قمعيّ، لا يوجد فيه شيء يشبه حرية التعبير، أو لا نريدكم. أما كيف يُغيّر النظام، فليس بالانتخابات، لأنهم لا يريدون استمرار الحكومة الضروية لإجراء الانتخابات، ولا بالضغط الدبلوماسي، لأنهم قطعوا العلاقات الدبلوماسية، إنما بالاقتتال الداخلي والحروب الأهلية.
إنها عبثية ما بعدها عبثية. تخيلوا أن حاكماً يتهم حزب الله بتدريب "أنصار الله" الذين يهزمونه في الحرب، يقرّر أن ينتقل من المواجهة العبثية مع "أنصار الله" الذين لم يستطع أن يهزمهم إلى مواجهة مع مدربهم. وفق مصطلحاته، فإن الحوثي هو الطالب، والحزب هو الأستاذ. يهزمه الطالب، فيفكر في مواجهة الأستاذ. إنه الانتقال من العبثية إلى العدمية.