هل تستطيع الصين تحقيق السلام في الشرق الأوسط؟
الصين في سياستها الخارجية تحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا تساند دولة ضد دولة أخرى، فهي تفضل تطوير علاقاتها الاقتصادية والقيام بالاستثمارات على أساس النفع المتبادل.
بعد 471 يوماً من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي تسبب في استشهاد أكثر من 47 ألف شخص ومئات الآلاف من الجرحى، وخلّف دماراً غير مسبوق، ونزوح 90 % من المواطنين عن بيوتهم، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحركة حماس، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، قبل يوم واحد من تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لقي وقف إطلاق النار ترحيباً دولياً كبيراً. فالصين أعربت على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماو نينغ، ترحيبها بدخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، وأعربت عن أملها في أن يتم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع بشكل كامل ودائم، وأشارت إلى أن الصين على استعداد للعمل مع المجتمع الدولي على مواصلة تحقيق ذلك، ومواصلة الجهود من أجل تعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
سعت الصين خلال السنوات الماضية إلى تعزيز حضورها في الشرق الأوسط الذي يتمتع بمكانة خاصة لدى بكين، نظراً إلى كونه يوفر أكثر من نصف احتياجات الصين من النفط، كما تمُر عبره البضائع من الصين وإليها.
غير أن المنطقة شهدت توترات كبيرة دفعت بكين إلى الانخراط في الأوضاع الأمنية فيها إنما بحذر شديد، وبطريقة لا تؤثر في جهودها لتعزيز اقتصادها الذي شهد تباطؤاً في النمو.
فقد لعبت الصين دور الوسيط في المصالحة الإيرانية- السعودية عام 2023، إلى جانب سلطنة عمان والعراق. فبعد اجتماعات عدة في هذين البلدين، كانت الأطراف المتنازعة بحاجة إلى ضامن من أجل تنفيذ الاتفاق وأتت الصين لتكون هي الضامن، خصوصاً أنها ترتبط بعلاقات هامة بكل من إيران والسعودية، ومن مصلحتها تخفيف التوترات بينهما نظراً لمصالحها الكبيرة في كلا البلدين، وبالتالي استمرار النزاعات والخلافات بينهما ليس من مصلحة الصين.
كما وجدت بكين أن المصالحة يمكن أن تؤدي إلى تخفيف التوترات في مناطق أخرى من الشرق الأوسط كما حصل في اليمن، حيث جرى التواصل بين السعودية وجماعة أنصار الله (الحوثيين).
ولغاية الآن، تلتزم إيران والسعودية بالمصالحة التي ربما لم تعجب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي من المتوقع أن يعمل على جذب الرياض إلى طرفه كي تبقى دول الخليج تعتمد عليه لمواجهة طهران.
أما في ما يخص القضية الفلسطينية، فالصين ترى أن لا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط ما لم تحل القضية الفلسطينية، ويكون ذلك عبر إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية.
ومنذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتخذت الصين إجراءات عديدة لمحاولة وقف الحرب سواء عبر إرسال مبعوثيها إلى الشرق الأوسط، أو إجراء محادثات مع المسؤولين الإسرائيليين ومسؤولي حركة حماس، واستضافة وفود عربية، كما هي الحال عندما زار وفد مكوّن من وزراء خارجية عدة دول عربية وإسلامية بكين خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 ، أو عبر إصدار موقف صيني -عربي موحّد تجاه القضية الفلسطينية بعد اجتماع "منتدى التعاون الصيني- العربي" الذي عقد في بكين خلال شهر أيار/ مايو الماضي.
كما استضافت بكين الفصائل الفلسطينية من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، وأسفر الاجتماع عن إعلان بكين إلى إنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الفلسطينية.
واليوم، بعد توقف القتال في قطاع غزة، حان دور الفصائل الفلسطينية من أجل تطبيق ما تم الالتزام به في الإعلان، ويتوقف على الصين أن ترعى الاتفاق الذي سعت جاهدة إلى إبرامه بين الفصائل الفلسطينية وتشكيل حكومة وفاق وطني.
كما أعربت بكين مراراً عن رغبتها في التوسط بين فلسطين و"إسرائيل" وعقد مؤتمر للسلام حول القضية الفلسطينية. فسياسة الصين ثابتة تجاه القضية الفلسطينية فهي تدعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية، وتؤيد أيضاً حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وقدمت الصين مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة ولبنان، وأعلنت أنها على استعداد للمشاركة في إعادة الإعمار في قطاع غزة، وتبرعت بمساعدات لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الأونروا).
كما لعبت الصين دوراً في احتواء التصعيد في الشرق الأوسط بعد أن استهدفت "إسرائيل" القنصلية الإيرانية في دمشق، فردّت طهران على الاعتداءات بأن أطلقت المسيرات والصواريخ على "تل أبيب". وتفادياً للتصعيد، أجرى وزير الخارجية الصيني وانغ يي اتصالاً بوزير خارجية إيران الراحل حسين أمير عبد اللهيان.
وبعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، دعمت الصين إيران في الدفاع عن أراضيها وحقها في الرد على التجاوزات الإسرائيلية. فقد كان لدى بكين قناعة بأن إيران ستحاول الرد على انتهاك سيادتها من دون أن يؤدي ردها إلى إشعال فتيل الحرب في المنطقة.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، أعلنت الصين أنها مستعدة لمساعدة سوريا في الدفاع عن سيادتها واستعادة الاستقرار فيها، خصوصاً أن بكين تخشى عودة مقاتلي الإيغور من سوريا إلى الصين أو إلى أفغانستان وباكستان، وبالتالي تهديد المصالح الصينية.
بشكل عام، تسعى الصين إلى العمل لتخفيف التوترات في الشرق الأوسط، إذ ليس من مصلحتها أن تشتعل المنطقة وتُغلق الممرات المائية التي تمر عبرها ناقلات النفط والسفن التجارية المتجهة من الصين وإليها.
ترتبط بكين بعلاقات وثيقة بجميع الدول العربية، ويتمتع الجانبان الصيني والعربي بالثقة المتبادلة التي يشكل دعامتها عدم تدخل الصين في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وعدم ممارسة الضغوطات تحت فرض العقوبات.
كما أن للصين علاقات متينة مع "إسرائيل"، إلا أن العلاقات الوثيقة بين "إسرائيل" وأميركا تقف دائماً عائقاً أمام تطوير العلاقات الصينية -الإسرائيلية، أو أن تتوسط الصين في القضية الفلسطينية التي تعدّ واشنطن نفسها مسؤولة عن هذا الملف، أو في حال التصعيد بين "إسرائيل" وإيران.
لقد أظهرت حربا غزة ولبنان أن الولايات المتحدة ما زالت تسيطر على المنطقة، وسيزداد التعاون مع الولايات المتحدة خلال عهد الرئيس ترامب الذي سيسعى إلى توقيع المزيد من اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل". ومن جهتها، تعدّ بكين أن اتفاقيات التطبيع لن تؤدي إلا إلى مزيد من التوترات في الشرق الأوسط ما لم تُحل القضية الفلسطينية.
وإذا حافظت واشنطن على نفوذها في الشرق الأوسط، فمن المحتمل أن يخف توسع النفوذ الصيني في المنطقة، حيث سيعمل ترامب على إبعاد دول المنطقة، لا سيما دول الخليج، عن الصين إلا إذا كان هناك توافق صيني- أميركي ولم يدخل البلدان في حرب تجارية.
لغاية الآن، يبدو أن الرئيس الأميركي يريد علاقات جيدة مع الصين على أساس صفقات تعقد بين البلدين. ومن المحتمل أن تبقى العلاقات جيدة لفترة، لكنها قد تصبح متوترة في حال عدم الاتفاق على صفقة معينة.
ومن ناحية أخرى، لا تريد بكين الدخول في صراعات دول الشرق الأوسط، كي لا تتوتر علاقاتها مع بعض دول المنطقة، إذا دعمت بكين دولة ضد دولة أخرى.
والصين في سياستها الخارجية تحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا تساند دولة ضد دولة أخرى، فهي تفضل تطوير علاقاتها الاقتصادية والقيام بالاستثمارات على أساس النفع المتبادل والمصلحة المشتركة.
تسعى الصين إلى العمل لتحقيق السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط عبر تنمية العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة والقيام بالمشاريع والاستثمارات التي تحقق التنمية، وتعمل بالطرق الدبلوماسية والسياسية على تخفيف التوترات والنزاعات فيها، ولكن بكين لا تضغط أو غير قادرة على الضغط على دول المنطقة من أجل حلّ النزاعات ووقف الحرب، وتقف واشنطن دائماً عائقاً أمام بكين لمنع توسع نفوذها في الشرق الأوسط.