"نورد ستريم 2": "سلاح الطاقة" الجديد لروسيا
خلال مساره، يمر خط الأنابيب في المناطق الاقتصادية الخاصة لخمس دول: روسيا وألمانيا والدنمارك وفنلندا والسويد.
اعتماداً على من تسأل، يعدّ "نورد ستريم 2" طريقة مستدامة لضمان أمن الطاقة في أوروبا أو وكيلاً للحرب الروسية الهجينة. بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر 2021، أعلن أليكسي ميلر، رئيس مجلس إدارة شركة "غازبروم" الروسية، انتهاء بناء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2". ومع انتهاء البناء، عاد الحديث عن ارتباط الطاقة بالأهداف السياسية إلى دائرة الضوء في أوروبا.
"نورد ستريم 2" هو مشروع خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من الحقول الروسية إلى الساحل الألماني، وهو يمتد إلى مسافة 1230 كيلومتراً تحت بحر البلطيق على طول خط أنابيب "نورد ستريم" الحالي الذي بدأ العمل في العام 2011. تعتمد ألمانيا بشكل كبير على واردات الغاز والنفط. ففي العام 2018، شكلت واردات الغاز حوالى 97% من إجمالي إمدادات الغاز الطبيعي.
شركة "غازبروم" التي تتّخذ من موسكو مقراً لها، والتي تسيطر الحكومة الروسية على أكثر من 50% من أسهمها، هي المالك الوحيد للمشروع. وقد التزمت بتوفير ما يصل إلى 50% من تمويل المشروع - كلفة المشروع 11 مليار دولار - فيما تأتي الأموال المتبقية من الشركات الألمانية "وينترشال" و"أونيبر" و"رويال داتش شل"، والفرنسية "إنجي"، والنمساوية "أو أم في" (OMV). كما أنَّ "غازبروم" هي المورّد الرئيسي للغاز إلى الأسواق الأوروبية، إذ وصلت حصّتها من واردات الغاز إلى السوق الأوروبية إلى 56% في العام الماضي.
يهدف خطّ الأنابيب إلى تزويد أوروبا بإمدادات غاز مستدامة، مع منح روسيا المزيد من الوصول المباشر إلى سوق الغاز الأوروبية، ولكن مع وصول التوتّرات بين روسيا والغرب إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، يشكّك الكثيرون في المنطق الاقتصادي البحت المنسوب إلى المشروع.
سينقل خط أنابيب "نورد ستريم 2" الجديد الغاز من حقل الغاز الطبيعي بوفانينكوفو في شبه جزيرة يمال في شمال روسيا، والذي يحتوي في المجموع 4.9 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز، أي أكثر من ضعف إجمالي احتياطيات الغاز للاتحاد الأوروبي (1.9 تريليون).
وستكون نقطة دخول خط أنابيب الغاز إلى بحر البلطيق هي منطقة "أوست لوغا" في "لينينغراد أوبلاست"، وهي أحد الكيانات الاتحادية في روسيا. وبعد دخوله إلى خليج فنلندا، سيمتد في بحر البلطيق ليصل إلى شمال شرق ألمانيا، بالقرب من مدينة غرايفسفالد.
وخلال مساره، يمر خط الأنابيب في المناطق الاقتصادية الخاصة لخمس دول: روسيا وألمانيا والدنمارك وفنلندا والسويد. ومن المقرّر أن تتضاعف السعة الإجمالية لنظام خطوط الأنابيب إلى 110 مليار متر مكعب بعد بدء العمل بخط "نورد ستريم 2".
لكنَّ خط أنابيب "نورد ستريم 2" يتجنّب أوكرانيا، حيث يمر جزء كبير من الغاز الطبيعي الروسي، قبل أن يشق طريقه إلى أوروبا. يمنح وضع "الوسيط" هذا أوكرانيا نفوذاً جيوسياسياً كبيراً. لذا، إن محاولات تجاوز الدولة السوفياتية السابقة بخط الأنابيب الجديد في بحر البلطيق فعّل أجهزة الإنذار في كييف، لأن بدء العمل بالمشروع يعني أنَّ الحكومة الأوكرانية سوف تخسر جزءاً كبيراً من الدّخل الذي تكسبه من خلال رسوم العبور، فأوكرانيا تمثّل بوابة نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا، ما يتيح لها أن تستفيد من رسوم عبور تبلغ 2-3 مليار دولار أميركي كلّ عام.
من المهمّ الإشارة أيضاً إلى أنه تم الاتفاق على بناء خط الأنابيب الجديد في العام 2015، أي بعد عام من الصراع الروسي الأوكراني حول منطقة القرم (استعادت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014). هذه الأزمة لم تؤثّر في أوكرانيا فحسب، ولكنها أثارت أيضاً مخاوف عديدة في الولايات المتحدة أيضاً. بالنسبة إلى الأميركي، إنّ أي تحرّك روسي مرفوض، ويجب منع العودة إلى زمن تظهر فيه روسيا كقوّة تسعى وراء مصالح جيوسياسية حول العالم. لذلك، في الجانب الأميركي، ما ظل ثابتاً هو التصوّر القائم على أن روسيا ستستخدم هذا المشروع الاقتصادي الجديد كسلاح في وجه القوى الغربيّة.
أثار خطّ الأنابيب مخاوف جيوسياسية كادت توقف تنفيذ المشروع. وأعرب المعارضون، بما في ذلك الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، عن مخاوفهم من أنَّ المشروع قد يمنح روسيا الكثير من النفوذ في أوروبا ويمكّنها من زيادة الاعتماد الأوروبي عليها للحصول على الطاقة إلى مستوى خطير.
مثلاً، في العام 2016، وقّع قادة جمهورية التشيك وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا رسالة إلى رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، يعربون فيها عن قلقهم بشأن "العواقب الجيوسياسية المحتملة المزعزعة للاستقرار" لبناء خط الأنابيب.
إنَّ رد الفعل السلبي القوي لعدد من دول الاتحاد الأوروبي ودول عبور الغاز الروسي ومورّدي الغاز العالميين ناتج في الغالب من الظروف الدولية التي يتم فيها تنفيذ المشروع، فقد زاد الاتحاد الروسي بشكل كبير من نشاط سياسته الخارجية في الساحة الدولية، وهو ما يقلق الدول الغربيّة، وخصوصاً الولايات المتّحدة، التي تسعى جاهدة لاحتواء أي تمدّد روسي جديد.
لذلك، ترى الولايات المتحدة أن هذه الزيادة في القوّة في الساحة الدولية غير مقبولة. ونتيجة لذلك، بُذلت عدّة محاولات لإبطاء تقدّم البناء أو فرض العقوبات؛ ففي عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هدّدت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على أيّ سفينة تساعد في بناء خط الأنابيب.
وبعد الانتخابات الأميركية في أواخر العام 2020، احتفظ الرئيس بايدن بهذه السياسة التي تحافظ على دعم واسع النطاق في البلاد، ولكن سرعان ما تراجعت الولايات المتحدة عن عقوباتها، واعتبرت أن فرصة نجاح الجهود المبذولة لوقف خط الأنابيب المكتمل بنسبة 98% في هذه المرحلة ضئيلة. وقد أدّت إلى توتر العلاقات الدبلوماسية مع بعض حلفائها، وخصوصاً ألمانيا. وأثارت وجهة النظر هذه انتقادات من السياسيين المعارضين الذين يرونها "ضعفاً" في مواجهة روسيا.
وبعد بضع جولات من العقوبات الأميركية على السفن والكيانات والأفراد الذين تربطهم علاقة بالمشروع، توصّلت واشنطن وبرلين إلى اتفاق في 21 تموز/يوليو 2021، سمح بإكمال "نورد ستريم "2. وكجزء من الاتفاق، أصدر البلدان بياناً مشتركاً قالا فيه إنهما "متّحدان في تصميمهما على محاسبة روسيا على عدوانها وأنشطتها المزعزعة للأمن، من خلال فرض تكاليف عبر العقوبات وغيرها من الأدوات".
ووعدت الحكومة الألمانية بأن ألمانيا ستتخذ إجراءات على المستوى الوطني في حال حاولت روسيا استخدام الطاقة كسلاح، وستضغط من أجل اتخاذ تدابير فعالة على المستوى الأوروبي، بما في ذلك العقوبات، للحدّ من قدرات التصدير الروسية إلى أوروبا في قطاع الطاقة، بما في ذلك الغاز و/أو في القطاعات الاقتصادية الأخرى ذات الصلة. وبهذه الطريقة، خفّفت ألمانيا العدوانيّة الأميركية تجاه المشروع، وأصبح العمل به مرتبطاً بعامل الوقت فقط.
مما لا شكَّ فيه أنّ "نورد ستريم 2" يشكّل أحد أكثر المشاريع الاقتصادية المؤثّرة في السياسة الدولية وموازين القوى العالمية، فهو يزيد نفوذ روسيا وحاجة الدول الغربية إليها، ويعطي الكرملين أداة جديدة للتفوّق على الأوروبيين. كما أنه استطاع دقّ مسمار جديد في العلاقات الغربية-الغربية.
لذلك، هناك انطباع متزايد داخل الاتحاد الأوروبي بأنّ "نورد ستريم 2" هو إحدى أدوات الكرملين لإضعاف تماسك الاتحاد. وعليه، يرى العديد من دول الغرب أنَّ المشروع مناورة استراتيجية تنفذها روسيا لتوسيع نفوذها في أوروبا، من خلال السيطرة على إمدادات الطاقة واكتساب نفوذ إضافي على جيرانها المقرّبين، وخصوصاً أوكرانيا.
بالنسبة إلى ألمانيا، إنَّ الاستمرار بالعمل على أساس أنَّها تستطيع زيادة اعتمادها الاقتصادي على روسيا بتكلفة جيوسياسية قليلة أو معدومة سيزيد سوء العلاقات مع الغرب عامة، ومع الولايات المتحدة خاصة. وبينما لا يرغب أحدٌ في حرب باردة أخرى مع روسيا، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام واقع متمثّل في أن روسيا عادت إلى الظهور على أنها تحدٍّ جيوسياسي للأمن الأوروبي. باختصار، استطاع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" أن يربط ألمانيا بروسيا، لكنه قسّم أوروبا.