موقف الغرب وحلفائه من الصناعات العسكرية السودانية
الاكتفاء الذاتي بالسلاح والغذاء والدواء هو إحدى ركائز استقلال الدولة الوطني. لهذا، يحارب الغرب والصهاينة أي مشروع تؤسسه أي دولة، وتهدف من خلاله إلى تحقيق اكتفاء من المنتجات الحيوية.
نشرت مجلة "military watch magazine" المتخصصة في الشؤون العسكرية، والصادرة في الولايات المتحدة الأميركية، مقالاً في 15 أيلول/سبتمبر الجاري، خصَّصته للصناعات العسكرية السودانية، يمكن تلخيص أبرز ما جاء فيه كما يلي:
- تحت إدارة الرئيس السابق عمر البشير، الذي تولى السلطة عام 1989، برزت جمهورية السودان على مدار الأعوام الـ25 الأخيرة من حكمه، كثالث أكبر قطاع دفاعي في القارة، وكقوة صناعية عسكرية رائدة في أفريقيا، بفضل المؤسسة الصناعية العسكرية التي تديرها الدولة.
- القوات المسلحة السودانية أصبحت من بين أفضل القوات تجهيزاً وتدريباً في القارة الأفريقية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، قوتها الجوية التي كانت الأولى إلى جانب الجزائر والمغرب وجنوب أفريقيا، وقدرتها على نشر صواريخ جو-جو نشطة موجهة بالرادار، وإنتاجها الدبابة "البشير" كدبابة قتالية رئيسية تنتجها المصانع السودانية، والتي تعتبر النسخة المطورة من الدبابة الصينية "T96".
- طوَّر السودان الدبابة الصينية. وقد طال هذا التطوير طريقة التلقيم الذي أصبح آلياً في النسخة السودانية، وخفض عدد الطاقم من 4 أفراد إلى 3، وطال أيضاً طريقة قذف القذائف، فأصبح موجهاً بالليزر، ما جعلها بالغة الدقة في التصويب وفي إصابة أهدافها. وقد ساعد في ذلك تزويدها بمناظير الرؤية الليلية التي منحتها خاصية القتال ليلاً.
- طورت النسخة السودانية أدوات التحكّم في الحرائق، إضافة إلى الوصول إلى جولات اختراق أكثر حداثة. وزودت هذه النسخة بمدفع 125 ملم وبجرافة، ما جعلها الأقوى في الخدمة بين رصيفاتها، وجعلها الدبابة الأفضل في مواجهة الدروع.
- عام 2012، نشر جنوب السودان قوة عسكرية مزودة بدبابات "T-72AV" الأوكرانية الصنع الروسية التقنية، يقودها طاقم تلقى تدريبه على يد خبراء أوكرانيين. دخلت هذه القوة في اشتباك مع الجيش السوداني المزود بالدبابة "البشير"، وتفوق الجيش السوداني عند الاشتباك، ودمّرت دباباته تلك 4 من دبابات حكومة الجنوب الأوكرانية الصنع، وأصيبت اثنتان منها بأضرار بالغة، في حين لم تتكبّد دبابات "البشير" أيّ خسائر أو أضرار جسيمة.
- مثل السودان لسنوات الدولة الأفريقية والعربية الوحيدة التي تنتج دبابات قتال رئيسية، وجعلته الصناعات العسكرية مُصدِّراً مهماً للأسلحة إلى أفريقيا والشرق الأوسط.
- بعد التغيير المدعوم من الغرب الذي أطاح الحكومة السودانية عام 2019، تعرّض السودان لضغوط كبيرة من العواصم الغربية لتجريد القوات المسلحة السودانية من أصولها الصناعية.
- استمرار إنتاج السودان للدبابة "البشير" أصبح غير مؤكد منذ إطاحة الحكومة السودانية في نيسان/أبريل 2019.
- تعرّض السودان في أعقاب ذلك التغيير لضغوط كبيرة من العواصم الغربية لتجريد قواته المسلحة من أصولها الصناعية. وبعد ذلك بفترة وجيزة، تم حذف موقع المبيعات الخارجية الذي يقدم تفاصيل عن منتجات السودان العسكرية.
مثّلت النقاط التسع الواردة أعلاه خلاصة لمقال المجلة الأميركية التي تصدر في الوقت ذاته عن بريطانيا وكوريا الجنوبية وشرق أفريقيا، وأسفرت هذه النقاط عن بعض الحقائق حول الصناعات العسكرية السودانية التي تأسَّست في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعدما فرض الغرب حصاره على السودان، وحظر توريد السلاح إليه، وبعدما مكَّن الدعم الغربي والإقليمي حركة التمرد في جنوب السودان من السيطرة على نحو 90% من أرض جنوب السّودان، وبعدما مكّنها هذا الدعم من دخول قواتها لبعض المناطق في شمال السودان، وتهديدها بإسقاط الدولة السودانية وإقامة مشروعها الهادف إلى تغيير هوية السودان، والذي لخصته في اسمها الذي اختارت له اسم "الحركة الشعبية لتحرير السّودان".
لم تكن الدبابة التي أطلق عليها النظام السابق -كما هي عادة الأنظمة العربية- اسم رئيسه، هي فقط ما أنتجته المصانع والسودانية، فقد برعت العقول السودانية في تطوير وابتكار صنوف عديدة من الأسلحة والمعدات الحربية والمدنية.
وقد أنتجت هيئة التصنيع الحربي من خلال مصانعها المختلفة الطائرات والمروحيات والمسيرات، وصنعت الأقمار الصناعيّة وأطلقتها، وأنتجت الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود، كما أنتجت الصواريخ والمدافع وكل أنواع الذخائر، فضلاً عن الرشاشات والأسلحة الخفيفة، وصنعت السيارات الصغيرة والشاحنات والجرارات وكثيراً من الآليات الزراعية، وحقَّقت بذلك للسودان اكتفاءً ذاتياً بالأسلحة والمعدات العسكرية، وببعض المنتجات الصناعية ذات الصلة بعملية الإنتاج الزراعي، ووفّرت بذلك مصدراً من مصادر قوة الدولة تتجاوز به تحديات الحصار ومحاولات الإخضاع، وأصبحت عائدات بيع تلك المنتجات في أسواق أفريقيا والشرق الأوسط مصدراً من مصادر تمويل ميزانية الدولة.
لقد كشف مقال المجلة بعض ما خفي حول الصناعات العسكرية السودانية، وكشف في الوقت عينه التوجهات الغربية الهادفة إلى تفكيك هذه القاعدة الصناعية ذات الأهمية الاستثنائية، وأشار المقال إلى الضغوط التي يمارسها الغرب على السلطات السودانية لحملها على وقف إنتاج هذه المصانع وتجفيفها وجعلها أثراً بعد عين. وبحسب المجلة، فإن هذه الضغوط أوقفت إنتاج الدبابة "البشير" تقريباً.
قدم المقال، ولو بشكل غير مباشر، تفسيراً للحملة الإعلامية والسياسية التي يتعرّض لها الجيش، وتتعرّض لها هيئة التصنيع الحربي من أحزاب تحالف الحرية والتغيير التي تدعو إلى تفكيك الجيش، واستبداله بجيش الحركات المتمردة على الدولة، وتدعو إلى وضع الشركات التابعة لهذه الهيئة تحت إدارة سلطتها، كما يقدم المقال كذلك مزيداً من التفسير لزيارة وفد الكيان الصهيوني لهيئة التصنيع الحربي ولمصانعها بمرافقة عضو مجلس السيادة حينها وأحد أبرز رموز هذا التحالف وأحد قادة حزب التجمع الاتحادي.
لقد تعرضت الصناعات العسكرية والمدنية في السودان لضربات عسكرية نفَّذتها صواريخ أميركية وصهيونية، استهدفت في آب/أغسطس 1998 مصنع الشفاء لصناعة الأدوية البشرية والبيطرية ودمّرته تماماً. أعقب ذلك هجوم صاروخي نفذه الكيان الصهيوني، واستهدف به مصنع اليرموك؛ أحد مصانع هيئة التصنيع الحربي التي تنتج الأسلحة، وكان ذلك في تشرين أول/أكتوبر 2012، وسبق ذلك تنفيذ 3 عمليات عسكرية في شرق السودان استهدفت قوافل تجارية وسيارات مدنية ادّعى الصهاينة أنها تنقل السلاح من السودان إلى غزة، وكان ذلك في شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير عام 2009، وكانت العملية الثالثة في شهر نيسان/أبريل 2011.
إنَّ الاكتفاء الذاتي للدول من السلاح والغذاء والدواء هو إحدى ركائز استقلالها الوطني الذي يكون ناقصاً من دونه. لهذا، يحارب الغرب والصهاينة أي مشروع تؤسسه أي دولة، وتهدف من خلاله إلى تحقيق اكتفاء من المنتجات الحيوية التي يسيطر عبرها الغرب على القرار السياسي للدول، ويفرض عبرها رؤاه وشروطه ومشروعاته.
وللأسف، يستخدم بعض الأدوات "الوطنية" في منع قيام مثل هذه المشروعات أو تفكيكها، ويستلزم وقف ذلك رفع الوعي عند المواطنين، ودعوة الساسة والأحزاب إلى التمييز بين معارضة الحكومات والأنظمة ومعارضة الدولة، فالأولى طبيعيّة تعبر عن التباين الطبيعي في وجهات النظر، وتعبر كذلك عن الحيوية السياسية كحال مطلوبة في الإطار التعددي. أما معارضة الدولة ومحاولة النيل من قدراتها وإمكاناتها، فتُعد ضرباً من ضروب الخيانة الوطنية التي يلزم وقفها بعدما تفشّت في كثير من الأقطار العربية.