موقع اجتياحات الضفَّة مِن "طوفان الأقصى" والمشهد الإقليمي
يعد تهجير سكان الضفَّة حَجَر الرحى في استكمال الكيان مشروعه الاستيطاني الإحلالي، وقد كان يَعتمِل على نارٍ هادئةٍ منذ وقتٍ طويلٍ، لكنه أصبح على نارٍ حاميةٍ في السنوات القليلة الأخيرة.
لم يَعُد ثمّة شكٌ بأن المنطقة في قلب معركةٍ مصيريةٍ وفاصلةٍ، معركة طويلة لا تزال في بداياتها، وما هذه المعركة إلّا آخر تجلّيات الصراع الممتد إلى نحو مئة عامٍ مع الاستعمار ومخلّفاته، والذي يعدّ الكيان الصهيوني وديمومته في المشرق العربي أبرز مظاهره.
لم يبدأ تاريخ المنطقة يوم 7 تشرين الأول المجيد، ولا "طوفان الأقصى" حصل في الفراغ، أو من دون مقدّماتٍ أفضت إليه، صحيحٌ أنه لم يكن معلوماً على وجه التحديد كيف ومتى ستقع الواقعة، ولا من أي الجبهات ستكون شرارة الانطلاق، إلا أن بوادر المعركة الراهنة قد ظهرت منذ حينٍ، ولم يكن صعباً استشراف حتمية وقوع الصدام في وقتٍ ما ليس بالبعيد، ذلك رغم سعي الأطراف لتفاديه، أو ربما الأصح سعيهم لتأخيره قدر المستطاع، فاختلال موازين القوى في المنطقة لم يكن مجرّد وهمٍ في مخيّلة الإستراتيجيين، بل كان واقعاً قرأه قسمٌ وازنٌ في كِلَا الطرفين على أنه يصب في مصلحته على المستوى الإستراتيجي، وهذا الاختلال كان لا بد من أن يفضي إلى صدامٍ عسكريٍ ما، في وقتٍ ما، على إحدى الجبهات غير المستقرة بالأصل، فالاختلال معناه عدم الاستقرار، ولا سبيل إلى عودة الاستقرار، ولو نسبياً، لصالح أحد الأطراف المتنازعة إلّا باتفاقٍ سياسيٍ كبيرٍ وشاملٍ، لا توجد مقوماتٌ واقعيةٌ لبلوغه، وإمّا بصدام عسكريٍ يحسم الاختلال لصالح طرفٍ على حساب طرف آخر، وإلّا فما معنى "الواقعية السياسية" أو "السياقات التاريخية"؟
لقد بدأ الكيان الصهيوني في السنوات القليلة الماضية إظهار نيّته علناً في استكمال ما كان قد بدأه في حرب 1948، وإنهاء ما تبقّى من القضية الفلسطينية، وجاء ذلك في خطواتٍ عمليةٍ كإقرار الكنيست لِمَا سمّي اصطلاحاً "قانون يهودية الدولة"، الذي يهدّد بصورةٍ مباشِرةٍ مستقبل بقاء فلسطينيّي الداخل في أرضهم، وكذلك تم توقيع ما سمّي "الاتفاقات الإبراهيمية"، في سعيٍ لتطبيع وجود الكيان كجزءٍ طبيعيٍ من المنطقة، وصاحب ذلك إعلان نتنياهو عزمه ضم أراضي الضفَّة قَبْل بضع سنواتٍ، وما تبع ذلك من عَرْضٍ لخرائط جديدةٍ للمنطقة في أروقة الأمم المتحدة على رؤوس الأشهاد، ناهيك بالخرائط التي قام بعرضها بعض وزراء حكومته عقب ذلك في محافل دوليةٍ أخرى، بما يشير بوضوحٍ إلى نيّة الكيان تهجير أهل الضفَّة، رغم أن نيات الكيان المبيّتة بخصوص القضية الفلسطينية لم تكن يوماً خافيةً، إلّا على مَن كان يفضّل دفن رأسه في الرمال، إمّا تواطؤاً أو خنوعاً أو جبناً.
يعد تهجير سكان الضفَّة أخطر خطوةٍ في خطوات الكيان آنفة الذكر، وحَجَر الرحى في استكمال مشروعه الاستيطاني الإحلالي، وقد كان يَعتمِل على نارٍ هادئةٍ منذ وقتٍ طويلٍ، لكنه أصبح على نارٍ حاميةٍ في السنوات القليلة الأخيرة، لا سيما بعد أن كان نتنياهو قد نعى بنفسه، مع آخرين من كبار قيادات الكيان، وفات أكذوبة "أوسلو"، ودفن تلك المرحلة إلى الأبد.
إن ضمّ أراضي الضفَّة، وتهجير سكانها، يرتبط ارتباطاً عضوياً بهدم المسجد الأقصى وتهويده، فهذا هو المدخل الطبيعي للقضاء على أي وجودٍ فلسطينيٍ ذي معنى في أرضه، لذا نجد بأن العنوان الذي اختاره العدو لهذه المرحلة كان تهويد المسجد الأقصى، تمهيداً لهدمه وإقامة الهيكل اليهودي المزعوم مكانه، وقد كان هذا المسار ماضياً في طريقه حتى صبيحة 7 تشرين الأول 2023، حينما أخذت كتائب القسّام زمام المبادرة، أما الحفاظ عليها فإنه رهن لتطورات الميدان وديناميات تحرك الأطراف المعنية. وفي كل الأحوال، لو لم تبادر المقاومة الفلسطينية بعملية "طوفان الأقصى"، فإن واقع الحال، ومسار الأحداث، وتراكم الظروف، كان سيفضي حتماً إلى صدامٍ عسكريٍ ما في المنطقة على المدى القصير، ربما كان "جيش" الاحتلال من بدأه ضد قطاع غزة.
عقب "طوفان الأقصى"، وما أحدثه من ضربةٍ إستراتيجيةٍ لركائز "الأمن القومي" الإسرائيلي، بدأ العدو حرب إبادةٍ جماعيةٍ في محاولةٍ لتعديل كفة التوازنات في المنطقة، ليستعيد مسار تهجير سكان الضفَّة الذي كان قد بدأ يسير على نارٍ ساخنةٍ، لكن بعد تعثّره في حسم المعركة في غزة، والقضاء نهائياً على المقاومة الفلسطينية المسلَّحة فيها، وعقب 11 شهراً من صمود الغزيين الأسطوري، الذي أرخى بظلاله على الوضع في الضفَّة، إذ بدأت مقاومتها بالتصاعدٍ على وقع مجازر غزة، لم يجد العدو بُدّاً من الهروب إلى الأمام وفتح جبهة الضفَّة قَبْل إنهاء الحرب الدائرة في غزة بصورةٍ كاملةٍ.
إذا ما أُخذ بالحسبان سياق تطور الأحداث في السنوات الأخيرة ضمن نظرةٍ شاملةٍ، فإن ذلك يقود إلى وضع قرار البدء بعملية اجتياح شمال الضفَّة في مسارٍ أوسع يرتبط باستكمال المشروع الصهيوني، الذي يرمي إلى إنهاء الوجود الفلسطيني فيها، وضمن مسار هدم المسجد الأقصى كخطوةٍ نهائيةٍ في هذا المشروع، الذي كان قد شرع العدو في استكماله بخطى حثيثةٍ في السنوات الأخيرة.
فاجتياح الضفَّة كانت قد سبقته خطواتٌ أخرى تمهيديةٍ كقرار استخدام "جيش" الاحتلال الطيران الحربي والمحلّقات في الضفَّة، ناهيك بالتسريبات بخصوص خطط ونيات قطعان المستوطنين اقتراف مجازر بحق أهل الضفَّة لأجل تهجيرهم، تلك الخطط التي تحظى بتأييد وزراء حكومة نتنياهو، والتي يمكن القول بأنها قد تحوّلت اليوم إلى سياسةٍ رسميةٍ مع بدء اجتياح شمال الضفَّة، وحصار المستشفيات، وعمليات تجريف وهدم المخيّمات، في مشهدٍ يذكّر بمشاهد الإبادة التي لا تزال متواصلةً في غزة.
لقد أدركت المقاومة الفلسطينية هذا الواقع، وخطورة المرحلة على القضية الفلسطينية، بل على مستقبل المنطقة برمّتها، وهي الأخبر بعدوٍ ما انفكّت عن مقارعته منذ أكثر من 76 عاماً عجافاً، لأن السماح للكيان المؤقّت باستكمال المشروع الصهيوني يعني بلا مواربةٍ تزعّمه كامل المنطقة العربية والإسلامية، وتثبيت إحدى أهم ركائز الهيمنة الاستعمارية، أقلّه لجيلٍ قادمٍ.
لقد تَشكَّل إجماعٌ على أن "طوفان الأقصى" كان حدثاً إقليمياً فارقاً، وهذا يوجب بالتالي قراءته بناءً على السياق الذي جاء فيه، والوضع الإقليمي والدولي الذي يصاحبه، حاله في ذلك حال بقية الأحداث التاريخية المفصلية، ولذلك لم يكن مستغرَباً أن تطلق كتائب الشهيد عز الدين القسّام اسم "طوفان الأقصى" على هذه المعركة الفاصلة، وذلك كرمزٍ يجسّد المرحلة التاريخية التي تمرّ بها الأمّة العربية والإسلامية، فهذه معركة القدس بامتيازٍ، وهي معركةٌ لا حلول وسط فيها، وذلك رغم ما يُشاع بين الحين والآخر عن فرصٍ لوقف إطلاق النار، لا تلبث الوقائع أن تكشف زيفها، فمَن يريد وقف الحرب لا يباشر مذبحةً أخرى في الضفَّة!
إن سير المعارك حتى اللحظة يشير إلى أن العدو مصمّمٌ على فرض هيمنته المطلقة على المنطقة، كما كان يسعى لذلك حثيثاً في السنوات القليلة الماضية، وهذا يمر عبر مسارٍ تصعيديٍ إلزاميٍ، يتمثّل بإنهاء القضية الفلسطينية، والقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلَّحة، والمقاومة الإسلامية في لبنان-حزب الله، بصفتهما خَطَرين حيويين على بقائه، وصولاً إلى تحجيم قدرات الجمهورية الإسلامية في إيران ونفوذها، باعتبارها خطراً وجودياً على استمراره.
لقد أجمع قادة قوى محور المقاومة على مصيرية هذه المعركة، ولعل الوصف الأبرز كان ما قاله مرشد الثورة الإسلامية، السيد علي خامنئي، إنّ عملية "طوفان الأقصى كانت حاجةً ماسَّةً إلى شعوب المنطقة؛ إذ جاءت في اللحظة المناسِبة لمنطقة غرب آسيا"، وأنّها "خلطت جميع الأوراق، وحصلت في لحظةٍ حساسةٍ، كان العدوُّ يسعى فيها لتطبيق مخطَّط السيطرة على المنطقة، وأفشلت محاولات التطبيع"، كما أكّد أن هذه المعركة قد وضعت الكيان المؤقّت على طريق الزوال.
لذا، فالعدو يسعى من خلال هذه الحرب لاستكمال نكبة 1948، بينما يعد تحويل المسار إلى نكبةٍ معكوسة على الكيان هذه المرّة أمراً متاحاً ضمن التوازنات الإقليمية الجديدة، وفي ظل صعود قوى مقاومةٍ فتيّةٍ وقادرةٍ وشجاعةٍ، وهنا يصير أي تلكّؤ في هذه الحرب جريمةً لا تغتفر، وتصبح كلفة النصر مهما كبرت أقل بكثيرٍ من كلفة الهزيمة، فهذه حرب إمّا غالب أو مغلوب، لا يبدو أن هناك مكاناً فيها لحلولٍ وسطٍ.
وعليه، يصير تصعيد العدو في الضفَّة، رغم كونه هروباً إلى الأمام، فإنّه يتطلب جهداً إضافياً لمنع العدو من بلوغ أهدافه، فالحرب قد تجاوزت منذ مدّةٍ غزة، لتصبح حرباً على مستقبل المنطقة ومصير قوى المقاومة قاطبةً، وهذا واقعٌ فرضته طبيعة الصراع، وأبعاده الإستراتيجية، وهي لحظةٌ كان لا مناص مِن الوصول إليها عاجلاً أم آجلاً، وذلك بناءً على مجرى تطور الأحداث خلال العقدين الماضيين، ناهيك بالأوضاع الإقليمية المستجدّة، وشبه الفوضى الدولية في ظل تراجع السيطرة الأميركية.