مسلسل "معاوية" عمل فنيّ أم عبث سياسيّ؟
ليس ثمة إشكال في الدراما التاريخية إذا انطلقت من حاضنة التأليف التاريخي وفق أصوله لتخدم غاية علمية أو سياسية وفق أولويات الأمة وتحدياتها الراهنة، لكن التخصيص السعودي لتاريخ معاوية مغزى لا تخطئه عين متابع، وهو تعميق الشرخ القائم حتى أبعد مدى.
تتلبّس السياسةُ الفنَّ؛ ما إن تقترب منه، حتى تنهش أنيابها أضلعه، فكيف إذا خاض الفن في متاهة التاريخ عبر نافذة فتنةٍ أكلت الأخضر واليابس في وقتها، وما زالت مفاعيلها ترى حتى وقتنا الراهن، وقد تاهت الأمة عبر كل عصورها، بين ما هو ديني وتاريخي؟
ما إن تم الإعلان عن مشروع مسلسل "معاوية بن أبي سفيان" (60هـ) من قبل مجموعة "أم بي سي"، المموّلة سعودياً، ليتم عرضه في شهر رمضان، حتى تصَدَّر الخلاف حوله مختلف الميادين الإعلامية والثقافية والفنية، بل جميع مواقع التواصل الاجتماعي، فمَن من المسلمين وغير المسلمين لا يعي مدى جدليّة الخوض في تاريخ معاوية، حتى ضمن حلقة بحثية، فكيف الحال في عمل فنيّ دراميّ تم ربطه بقدسية شهر رمضان، الذي يُفترض أن يكون مناسبة جامعة للأمة؟!
أنفقت الـ "أم بي سي" 100 مليون دولار في إنتاج مسلسل "معاوية"، واستخدمت كاتباً (إعلامي سابق) لم يسبق له العمل في التأليف، إلا في تحرير جريدة "اليوم السابع" المصرية، أو المشاركة كممثل في أعمال قليلة، فإذا به عبر مسلسل "معاوية" يتحوّل إلى مؤلف، رغم أنه لم يسبق أن تعامل مع أصول الرواية التاريخية، في ضبط متنها أو التحقق من أسانيد رواتها وطرق تخريجها، وتعدد مدارسها.
ليس ثمة إشكال في الدراما التاريخية إذا انطلقت من حاضنة التأليف التاريخي وفق أصوله، وجاءت لتخدم غاية علمية أو سياسية وفق أولويات الأمة وتحدياتها الراهنة، ورغم عدم مشاهدة أيّ من حلقات مسلسل "معاوية" حتى الآن، لكن هذا التخصيص السعودي لتاريخ معاوية، من منظومة نشطت في تمزيق التضامن السياسي للأمة، وتقف خلفها مرجعية فكرية تستسهل تكفير الآخر الإسلامي، فإن لهذا التخصيص مغزى لا تخطئه عين متابع، في تعميق الشرخ القائم حتى أبعد مدى.
عشرون عاماً على ولاية الشام، ثم عشرون أخرى خليفة، ليس في أربعين معاوية هذه من مساحة تُجمع عليها الأمة، إلا ما قلّ مما يمكن اعتباره مادة تاريخية تعبوية في خدمة حاضر الأمة ومستقبلها، فكيف لهذا المسلسل أن يعطي مساحة إيجابية جامعة لجيل إسلامي يصوم نهاره ويقوم ليله، ثم يتحف سهراته الرمضانية مع علم إسلاميّ تاريخي، يراه كثيرون صحابياً وفاتحاً وكاتباً للوحي، فإذا به مع كل ما سبق مما يجتمع في مخيلة العامة وبعض الخاصة، يجعل الخلافة الراشدة ملكاً وراثياً بالسيف، فيورث ولده، قلائد خلافة امتدت قبل حكمه من أفغانستان شرقاً حتى ليبيا غرباً، ومن صنعاء جنوباً حتى أذربيجان شمالاً، لتستقر في قبضته، ثلاث سنوات، خاض فيها السيف حتى آخر رمق.
يفاخر منتج مسلسل "معاوية" بكون هذا العمل حقيقة تاريخية، والتاريخ يغص بشتى الروايات والأقاصيص، ولا يمكن تلمّس هذه الحقيقة عبر وضع اليد على الروايات المشهورة، ولا الروايات المرغوبة، ولكنه البحث وفق ما أجمعت عليه مدارس التاريخ، حتى صار بديهة ومفصلاً لا يختلف عليه اثنان، بما يخلص إلى حقيقة تاريخية لا يجادل فيها دارس علم، وهذا ممكن ومتوفر في مصادرنا التاريخية، وليس مجرد الرواية عند الطبري أو البلاذري أو اليعقوبي، فإن هؤلاء وغيرهم قد رووا ولم يجزموا بصحة كل ما رووه، إنما تركوا لنا ضرورة البحث في المادة التي رووها وفق قواعد علمية باتت معروفة.
يقوم علم التاريخ على أسس بحثية وفق صدق أسانيد الرواة وتسلسلهم من دون انقطاع، ووفق ضبط متن الرواية ونصها، من حيث تناغمها مع الأحداث التاريخية الثابتة قطعاً في القرآن وتواتر السنّة وكتب الأدب واللغة والأنساب والجغرافيا، وهي نصوص يقبلها العقل السويّ البعيد عن الهوى، ولا تنقضها بديهيات التاريخ ولا أصول العقل، أو تكون الحقيقة التاريخية وفق ما تمخضت عنه نتائج الأحداث، وما استقر منها في البنيان أو الأعمال، مما يتسق مع تسلسل التاريخ في مفاصله المجمع عليها بين شتى مدارسه.
يأتي مسلسل "معاوية" مع تراجع السعار المذهبي، الذي ساد عالمنا الإسلامي طوال عقد مضى من الاحتراب، فهل يهدف هذا العمل إلى تجريب طريقة أخرى في تسعير الخلاف، خاصة أن أحداث المسلسل تدور بالضرورة حول الصراع الذي اشتعل منذ اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، حتى ملحمة الطف في كربلاء، مروراً بواقعة صفين وغيرها من الوقائع والصراعات، التي احتل فيها معاوية دوراً محورياً، فهل يمكننا تخيّل أن ينحى هذا العمل الدرامي منحى التحقيق العلمي في تناول هذه الأحداث؟
يرجح أن يكتفي مسلسل "معاوية" بما أورده الطبري عن الراوي سيف بن عمر التميمي، ونعلم أن الطبري نقل عن عدة رواة في كل واقعة، بكل أمانة علمية، ليغطي كامل روايات المدارس التاريخية، ولكن الماكينة السعودية عبر مرجعيتها في الفتوى والجامعات والمراكز البحثية ودور النشر، أوغلت في النقل عن سيف بن عمر دون غيره، لأنه يقدّم الأحداث وفق تسلسل يناسب ما تواطأت عليه هذه الماكينة، بخلفيتها السياسية كعائلة تحكم بالوراثة والاستبداد، رغم إجماع مختلف تراجم الرجال المعتمدة في علم الجرح والتعديل على اعتبار هذا الراوي كاذباً، بل زنديقاً يختلق الأحداث من مخيلته.
أمام هذا الخبث الدراميّ المخبأ لشهر رمضان، ما هو السبيل المرجو في احتواء تداعياته الفكرية والنفسية على مستوى العامة وأصحاب الأهواء ومتّبعي المشاريع الخبيثة؟ هل يكون بإصدار عمل دراميّ حادّ يعاكسه، ولكنه يجاريه في الطريقة، بِنيّة الانتقام الثأري، مثل إصدار مسلسل عن أبي لؤلؤة كما يتردد؟ أو النأي السلبي عبر تجنب الخوض في الأمر برمته؟
إن الرد على مسلسل "معاوية" بمسلسل مقابل، يحقق كامل أهداف العبث السياسي للجهة الراعية له، وهي غاية لا تخفى في دفع الأمة نحو مزيد من الاحتراب، خاصة أن منظومة هذه الأعمال، بما فيها المتحفزة للرد، لا تقف على الحقيقة التاريخية، ولا تنتج أعمالها ضمن أولويات بحثية ولا علمية، إنما هي تجاري مصالحها وما تدغدغ به عواطف عوامها، وما ينتج اصطفافات حادة قابلة لإدامة الصراع.
لم يعد تيار الزيف يلعب وحيداً في ميدان المعرفة، بكل تجلياتها السياسية، وبات هناك لاعبون يمتلكون كل أدوات المعرفة وتسخيرها في تعزيز الوعي التاريخي، وتنزيلها في صراعات الأمة مع أعدائها الحقيقيين، ولئن كان العمل الدرامي غير مؤهل لمعالجة الصراعات الحساسة في تاريخنا الإسلامي، حتى من زاوية الحقيقة التاريخية، نظراً إلى التداخل بين ما هو ديني وتاريخي في وعينا حتى كباحثين، بما يصعب تفكيكه في الدراما، فإن حلقات البحث ومنابر الفكر ومراكز النشر باتت مؤهلة وقادرة على تقديم رواية تاريخية ناصعة تتجاوز وضوح فتح خيبر وصمود حُنين، لما هو تبيّن الخيط الأبيض من الأسود، بين العدالة والبغي أو الحقيقة والشطط.