مسرح حرب الشمال السوري
لا شك في أن معظم ما يجري في الشمال السوري، هو عمل تنسيقي غير كامل، بين موسكو وأنقرة، وتقوده الاستخبارات التركية، وتحاول معاكسته الاستخبارات الأميركية، التي تسمي إدلب "قلعة المعارضة".
أثارت سهولة سيطرة حركة "تحرير الشام" على منطقة عفرين، مجموعة من التساؤلات عن أسباب الهجوم، والسهولة البالغة التي استطاعت فيها أن تسيطر على منطقة جبلية صمدت أكثر 40 يوماً في وجه الاحتلال التركي، على أيدي مقاتلي وحدات حماية الشعب، الأقل عدداً وتجهيزاً من الجيش الوطني، الذي تدعمه تركيا والولايات المتحدة! فما الذي يحدث هناك؟
كان للدور التركي، ذي الطابع الإسلامي الإخواني، الحصة الكبرى في تشكيل وقيادة أغلب المجموعات الإسلامية المسلحة على مستوى سوريا، وخصوصاً في المنطقة الوسطى والشمالية، ولم يكن هذا الدور إلا جزءاً من مشروع دولي كبير، وُضعت أسسه الأولى عام 2004، وتبلور في مؤتمر لوكسمبورغ لحلف الناتو في الشهر العاشر من عام 2010.
وعلى الرغم من الدور الكبير ذي الطابع الاستثماري لتركيا في المأساة السورية، فإن المسار العام لم يكن لمصلحة المشروع الغربي، على الرغم مما حققه من دمار واسع وعنيف للبنية الاجتماعية والاقتصادية السورية، بفعل المساندة العميقة والفاعلة لحليفي دمشق الأساسيين روسيا وإيران، ثم لتأتي بعدها الحرب في أوكرانيا، لتؤكد جدّية فعالية التحولات الآسيوية الناهضة في مواجهة المشروع الغربي، مع تعمُّق المأزق التركي الداخلي، بفعل التدهور الاقتصادي للمجتمع التركي، وما ترك من آثار سلبية على المشروع العثماني الجديد، ما دفع أنقرة إلى استثمار موقعها الجيوسياسي الأهم بين أوروبا وآسيا، وأداء دور سياسي متوازن بين روسيا والولايات المتحدة، مع الميل الواضح إلى التنسيق أكثر مع روسيا وإيران في المسألة السورية، بعد محاولة الانقلاب الأميركية عام 2016.
كان من الواضح أن المكاسب الإنقاذية، التي يمكن أن تحققها تركيا، في علاقاتها بروسيا وإيران، أكبر بكثير من علاقاتها بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً التجربة السلبية في محاولات الإدارات التركية المتلاحقة دخول النادي الأوروبي، على الرغم من دورها الكبير على مستوى حلف الناتو، وعلى الرغم من حجم الاستثمارات الغربية التي تدفقت إليها، ما دفع أنقرة إلى زيادة المراهنة على دور أكبر، خصوصاً بعد الإغراءات الروسية الأخيرة، بجعل تركيا المركز الرئيس لتوزيع الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي، بما يجعل منها المتحكم الأساسي بالاتحاد، ويمنحها دوراً سياسياً واقتصادياً أكبر في العلاقة بالغرب عموماً.
وهذا يتطلب منها أمرين أساسيين، هما: نزع صفة الإسلامية عن التوجهات السياسية، وما يقتضيه ذلك من رفع الدعم والتبني للمجموعات الإسلامية المسلحة في الشمال السوري، والثاني هو الذهاب نحو إعادة ترتيب العلاقة بسوريا، عبر عملية مصالحة معقدة بمساراتها ونتائجها.
ومن هنا، يمكن أن نفهم طبيعة أحداث المعارك الأخيرة في الشمال السوري، بين هيئة تحرير الشام، التي تعمل تركيا والولايات المتحدة لتعويمها كفصيل عسكري سياسي مدني معارض، ويين بقية التنظيمات الإسلامية المسلحة، وغير المنضبطة بالقرار التركي، التي تميل إلى مزيد من الأسلمة، وخصوصاً الفيلق الثالث، الذي يميل نحو مزيد من الأخونة، ما يُثقل كاهل أنقرة التي تعمل لنزع اللباس الإسلامي، استعداداً لمرحلة التحولات الكبرى على المستوى الإقليمي المحيط بتركيا.
تقتضي المصلحة التركية الاعتماد على "هيئة تحرير الشام"، التي أثبتت فهمها الجيد لأولويات المصالح التركية، ما يجعلها اللاعب الأساس في كل منطقة الشمال، ويؤهلها في المرحلة المقبلة، لتكون الممثلة الوحيدة للمعارضة السورية.
هذه المعارضة التي أثبتت عجزها عن الانضباط بالسياسات التركية، بصراعاتها التي لم تتوقف، إضافة إلى ضرورة التخلص منها، بعد أن أدَّت دورها في الانفلات الأمني، في كل المناطق التي احتلتها، وسمعتها القذرة في عمليات التهجير والخطف والابتزاز، والاستيلاء على الأملاك الخاصة، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بالتنصل من أسمائها القديمة، والانضواء تحت مظلة "الهيئة"، التي أثبتت انضباطيتها العالية، ما يتطلب تقويتها أيضاً بالسيطرة على المعابر التي ستسمح لعمليات النقل البري بين تركيا ودول الخليج عبر ما تبقى من سوريا، ما يمنحها ملايين الدولارات يومياً، ويجعلها أكثر قدرة على تثبيت أقدامها في الشمال السوري، كرقم صعب لا يمكن اقتلاعه، بما يؤسس لإدارة ذاتية جديدة في شمال غربي سوريا تحت النفوذ التركي، وبرضا ووعد أميركي.
لا شك في أن معظم ما يجري في الشمال السوري، هو عمل تنسيقي غير كامل، بين موسكو وأنقرة، وتقوده الاستخبارات التركية، وتحاول معاكسته الاستخبارات الأميركية، التي تسمي إدلب قلعة المعارضة، وهو عمل لا يمكن المراهنة الإيجابية عليه بالشكل الكامل، فصمت روسيا وإيران، لا يعني القبول باستمرار وجود المجموعات الإسلامية المسلحة، التي تشكل تهديداً للأمن القومي الروسي والإيراني، وخرقاً للوعود بالمحافظة على وحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقلالها.
كما أن الاستخبارات التركية ليست المتحكمة الوحيدة بهذه المنظمات، فللاستخبارات الأميركية دور بارز في ذلك، كما أن دمشق تخشى تغوّل "هيئة تحرير الشام" مالياً وعسكرياً بما يشكل عبئاً على أي استعادة حقيقية لشمال غربي سوريا، وبقاء تركيا فيها عبر تنظيم قديم باسم مدني جديد.