مستقبل بحرية الاحتلال الإسرائيلي بعد صفقة الغواصات الألمانية
النقلة الأبرز في تسليح بحرية الاحتلال الإسرائيلي، تمت الشهر الحالي، عبر توقيع صفقة شراء ثلاث غواصات جديدة من فئة "داكار".
لم يكن لسلاح البحرية، في العقيدة العسكرية "الإسرائيلية"، على المستوى التكتيكي، مكان بارز خلال العقود الماضية، على الرغم من حقيقة مفادها أن أراضي فلسطين المحتلة تتميز بإطلالة ساحلية على البحر المتوسط، إلى جانب وجود نافذة لها على البحر الأحمر. تراجُعُ دور هذا السلاح في التكتيك العسكري للاحتلال الإسرائيلي، جاء لمصلحة القوة الجوية، التي ظلت السلاح الأساسي الذي تلجأ إليه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما تم تدشينه فعلياً خلال معارك الأيام الستة عام 1967.
الاعتماد، بصورة أساسية، على القوة الجوية، جعل التركيز على ما يتعلق بالتسليح النوعي، ينصبّ عليها بصورة كبيرة، في حين كانت القوة البحرية الإسرائيلية دوماً تعاني محدودية تسليحها، وعدم إيلاء أدوار هجومية أساسية لها خلال المعارك المتعددة التي شهدها الصراع العربي - الإسرائيلي. وانعكس هذا الأمر على أداء هذا السلاح، الذي عانى خسائر كبيرة خلال فترة حرب الاستنزاف، كان أهمها إغراق المدمرة "إيلات" في تشرين الأول/أكتوبر 1967، من جانب زوارق الصواريخ البحرية السوفياتية الصنع، "أوسا - 1"، التابعة للبحرية المصرية، في سابقة شكلت نقطة مفصلية في تاريخ الصراعات البحرية حول العالم.
على الرغم من هذا الواقع، فإن "تل أبيب" حرصت، منذ ستينيات القرن الماضي، على امتلاك عدد من الغواصات التي كانت عاملة سابقاً في البحرية البريطانية، بهدف تنفيذ العمليات البحرية الخاصة في الموانئ المعادية، لكن لم تتكلّل أغلبية محاولات بحرية الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ هذه العمليات بالنجاح، بل بالعكس، خسرت الغواصة "داكار" عام 1968، بعد أن اصطدمت بقاع البحر في منطقة تقع بين جزيرة قبرص وميناء الإسكندرية المصري، في حادثة ما زالت ملابساتها الكاملة غير معروفة حتى الآن.
حرب تموز/يوليو 2006 والانتباه لأهمية السلاح البحري
ظل رهان المؤسسة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي مستمراً لعقود على التفوق الجوي، وهو ما كان واضحاً خلال كل المواجهات العسكرية، التي تمت خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. في "حرب لبنان الثانية" عام 2006، شاركت الوحدات البحرية الإسرائيلية، بصورة موسعة، في دعم المجهود الهجومي، براً وجواً، لكن شابت هذه المشاركة سابقة جديدة، تعرَّض فيها للمرة الأولى، كورفيت من الفئة "ساعر - 5"، لأضرار متوسطة جراء إصابته بصاروخ مضادّ للسفن من نوع "سي - 802"، أطلقه مقاتلو حزب الله بصورة ناجحة خلال الحرب.
هذه الحادثة دفعت المخطط العسكري الإسرائيلي إلى البحث في التوجه، بصورة أكبر، نحو الاستحواذ على قِطَع بحرية كبيرة، تمتلك قدرات تسليحية متنوعة، وتستطيع في الوقت نفسه العمل من على مسافات بعيدة نسبياً عن الشواطئ، بدلاً من امتلاك القطع البحرية الساحلية او المتوسطة التسليح، "ساعر - 4" و"ساعر -5". لذا، صممت "إسرائيل"، بالتعاون مع ألمانيا، كورفيتات الفئة "ساعر - 6"، التي تضمنت مهبطاً للمروحيات المتوسطة والمتعددة المهمات، وتسليحاً مضاداً للقطع البحرية يتكون من 16 صاروخاً مضاداً للسفن، من نوع "غابريال"، إلى جانب 32 خلية إطلاق رأسية لصواريخ الدفاع الجوي "باراك - 8". وجدير بالذكر هنا أنه تم، خلال السنوات الأخيرة، دمج منظومة الدفاع ضد الصواريخ، "القبة الحديدية"، بحيث تعمل بصورة مستقلة من على متنها. وبالفعل، دخلت الخدمة في سلاح البحرية الإسرائيلي، بصورة إجمالية، أربعة كورفيتات من هذا النوع، تم تسليم آخر كورفيتين منها في تموز/يوليو الماضي، وباتت تمثل عماد القوة البحرية الإسرائيلية في الوقت الحالي.
فيما يتعلق بالغواصات، كانت بحرية الاحتلال الإسرائيلي، بحلول عام 2006، تمتلك فقط 3 غواصات عاملة بالديزل والكهرباء، من الفئة "دولفين". وكان هذا الوضع، على المستوى الاستراتيجي، خطيراً، بالنظر إلى امتلاك دول عربية، مثل مصر والجزائر، قوات بحرية كبيرة تتضمن غواصات. لذا، عكفت "تل أبيب" على شراء مزيد من الغواصات، فضمّت في الفترة بين عامي 2012 و2017، ثلاث غواصات جديدة معدَّلة من الفئة "دولفين"، تحت اسم "دولفين - 2"، إلاّ أن هذه الإضافة لم تكن ذات أهمية تكتيكية كبيرة، نظراً إلى عدم تمتع الغواصات الجديدة بعنصرين أساسيين من عناصر التفوق اللازم توافرها على المستوى البحري. العنصر الأول هو آلية الإطلاق العمودي للصواريخ الباليستية، أو الجوالة. والعنصر الثاني هو عدم تمتّع هذه الغواصات - أو اثنتين منها على الأقل - بتقنية "الدفع الهوائي المستقل"، والتي تتيح لها العمل تحت سطح الماء لفترات أطول من المعتاد.
هذه النقاط، تُضاف إلى الجدل الذي أثارته خلفيات هذه الصفقة التي تمّت مع شركة "تيسين كروب" الألمانية، وتضمنت أيضاً أربعة كورفيتات من الفئة "ساعر - 6"، بحيث شكّلت حكومة الاحتلال الإسرائيلي مؤخّراً لجنة تحقيق للبحث في البنود المالية الخاصة بهذه الصفقة، التي تمت في عهد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو. تسبّب هذا الملف، بصورة رئيسية، بتأخير عمليات تحديث سلاح البحرية الإسرائيلي، الذي تأخر ترتيبه على نحو واضح في معظم التصنيفات العسكرية الدولية، بحيث حّل في المركز الرابع والأربعين على المستوى العالمي، في حين دخلت القوات البحرية، في دول مثل مصر والجزائر وتركيا وإيران، ضمن المراكز العشرين الأولى.
محاولة التحديث على الرغم من المشاكل الحكومية والقانونية
على الرغم من هذا التأخر، فإن "تل أبيب" حاولت، منذ مطلع عام 2019، الاعتماد على قدراتها الذاتية لتطوير القطع البحرية العاملة في قواتها البحرية، وخصوصاً القطع المتقادمة، فبدأت تزويدَ الكورفيتات القديمة من الفئة "ساعر - 4.5"، بوسائط لإطلاق الذخائر الجوالة "غرين دراغون"، بحيث نجحت عملية التثبيت والإطلاق لهذا النوع من الذخائر، على متن الكورفيت "حيتس"، في شباط/فبراير من العام نفسه. وتستطيع هذه الذخائر العمل بصورة متواصلة لمدة ساعتين، عبر محرك كهربائي ذي بصمة صوتية منخفضة. وتتزوّد كل ذخيرة من هذا النوع برأس حربي يزن 3 كيلوغرامات.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، وقّعت وزارة أمن الاحتلال الإسرائيلي مذكّرة تفاهم مع إدارة الترسانة البحرية، من أجل تصميم قطعة بحرية جديدة تحلّ محل كورفيتات الفئة "ساعر - 4.5"، والتي تعدّت مدة خدمتها في البحرية الإسرائيلية 20 عاماً. كانت هذه الخطوة، إلى جانب عملية الاستحواذ على الغواصات الثلاث من الفئة "دولفين - 2"، والكورفيتات الأربعة من الفئة "ساعر - 6"، بهدف مجاراة التطورات التي بدأت تتلاحق منذ ذلك التوقيت في شرقي المتوسط. تمت تسمية التصميم الجديد: "ريشيف". وانتهت الترسانة الإسرائيلية من هذا التصميم في آب/أغسطس الماضي، ويتم البحث في العدد الذي سيتم بناؤه من هذا النوع، ليحل بالتدريج محل 8 كورفيتات متقادمة من الفئة "ساعر - 4.5".
كذلك، دخلت بحرية الاحتلال الإسرائيلي، في تموز/يوليو الماضي، في مفاوضات مع بعض الشركات المحلية، من أجل الاتفاق على بناء عدد من الزوارق الهجومية السريعة من الفئة "شالداج"، وهي فئة اشتراها بعض الدول الآسيوية من "إسرائيل"، خلال الأعوام الأخيرة، ويتم تصنيعها بصورة كاملة من الألومنيوم، وتزيد سرعتها على 40 عقدة بحرية، ويصل مداها العملياتي إلى 1000 ميل بحري.
النقلة الأهم والأبرز في تسليح بحرية الاحتلال الإسرائيلي، تمت الشهر الحالي، عبر توقيع صفقة شراء ثلاث غواصات جديدة من فئة "داكار" مع شركة "تيسين كروب" الألمانية، وهي الصفقة التي تم إبرام مذكرة تفاهم بشأنها عام 2017، لكنها ظلت معطلة بسبب الشبهات التي طالت صفقة الغواصات السابقة. اعتبار هذه الصفقة بمثابة نقلة نوعية، يُعزى، بصورة أساسية، إلى أن التقديرات المتوافرة تشير إلى أن الغواصات الجديدة ستكون مزوَّدة بتقنية الدفع الهوائي المستقل، وهو ما يتيح لها مدى عملياتياً أكبر، وحاجة أقل إلى الصعود إلى سطح الماء.
يُضاف إلى ذلك تزوُّد الغواصات الثلاث بتقنية الإطلاق العمودي للصواريخ المتعددة، وهي تقنية تسمح للغواصة بإطلاق الصواريخ الجوالة والمضادة للقطع البحرية، وكذلك الطائرات من دون طيار، في أثناء غوصها تحت الماء، بدلاً من أن تقوم بتعديل أنابيب إطلاق الطوربيد، كي تسمح بإطلاق الصواريخ الجوالة، بحيث يتم الإطلاق عندما تكون الغواصة قرب سطح الماء، وهو ما كانت الحال عليه فيما يتعلق بالغواصات السابقة من فئة "دولفين 1 -2"، التي كانت تتزوَّد بأنابيب طوربيد من عيار 533 مم لإطلاق الطوربيدات التقليدية، وأنابيب اخرى من عيار 650 مم لإطلاق الصواريخ الجوالة، أو المضادة للقطع البحرية.
ما زال الغموض يلفّ عدد خلايا الإطلاق العمودية والتي ستتزود بها الغواصات الجديدة، بحيث يُعتقد أنها ستتراوح بين أربع وست خلايا. أمّا نوع التسليح الذي ستتزود به هذه الخلايا، فيما يتعلق بالصواريخ الجوالة أو المضادة للقطع البحرية أو حتى الصواريخ الباليستية، فقد كانت بحرية الاحتلال الإسرائيلي تعتمد في تسليح غواصاتها من فئة "دولفين" على الصاروخ الجوال "بوباي توربو"، وهو نسخة من الصاروخ الجوال "بوباي"، تم تعديلها، بحيث يتم إطلاقها من أنابيب الطوربيد الخاصة بالغواصات. وتشير معلومات متوافرة إلى أن مدى هذا الصاروخ يصل إلى 1500 كيلومتر، وتم تزويده برأس حربي نووي، تصل قدرته إلى نحو 200 كيلوطن. وتسليح الغواصات الجديدة في هذا الإطار قد يحمل أنواعاً جديدة من الصواريخ الجوالة أو الباليستية، وهو ما سيُضيف قدرات ردع جديدة إلى بحرية الاحتلال الإسرائيلي.
مأزق مواكبة تصاعُد القوى البحرية في المحيط الإقليمي
حصول "تل أبيب" على قدرات جديدة في مجال الصواريخ الجوالة فرط الصوتية، يُعَدّ أساسياً للوصول إلى الهدف الاستراتيجي من شراء الغواصات الألمانية الجديدة. والمفارقة هنا أن "تل أبيب"، على الرغم من إنتاجها عدة أنواع من الصواريخ الجوالة، فإنها تُعتبر متأخرة فيما يتعلق بالقدرات الصاروخية الباليستية والجوالة، الممكن إطلاقها من الغواصات. والمثير، في هذا الصدد، أن السلطات القضائية في "إسرائيل" بدأت، في شباط/فبراير الماضي، تحقيقات مع عدة أشخاص ثبت تورطهم في تطوير تقنيات خاصة بالصواريخ الجوالة وتصديرها إلى الصين، بينها تقنيات خاصة بالقطع البحرية.
خلاصة القول أن بحرية الاحتلال الإسرائيلي تعاني، منذ سنوات، مشاكل بنيوية وتسليحية متجذرة، انعكست حتى على مستوى عمليات الصيانة التي يتم إجراؤها في القواعد البحرية الإسرائيلية. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أُصيبت إحدى الغواصات الإسرائيلية، من فئة "دولفين"، بأضرار جسيمة نتيجة خطأ بشري في أثناء أعمال صيانة الأنظمة الكهربائية الخاصة بها. وقبل ذلك بعدة أشهر، تم الإعلان بشأن عدة حوادث طرأت في أثناء عمليات الصيانة الخاصة بكورفيتات الفئة "ساعر -4.5"، نتج من إحداها حريق في أحد الكورفيتات، وبسبب هذا الحريق فُصِل وعوقِبَ ضابط بحري رفيع ومجموعة من ضباط الصف.
يُتوقَّع أن تدخل الغواصات الثلاث الجديدة في الخدمة في بحرية الاحتلال الإسرائيلي بعد 9 سنوات، وهي فترة طويلة ستشكل تحدياً للمخطط العسكري للاحتلال الإسرائيلي، الذي يجد نفسه مجبراً على البحث فيما يمكن فعله لجعل القوة البحرية الإسرائيلية متماشية مع حجم التحدي الإقليمي، في وقت تتعاظم، بصورة ملحوظة، القوى البحرية للدول القريبة، مثل اليونان ومصر، وفي الوقت نفسه، يتزايد النشاط البحري للبحرية الإيرانية في البحرين المتوسط والأحمر، وخصوصاً في ظل حالة الاشتباك غير المعلنة، والتي تمت خلال الأشهر الماضية بين الجانبين، وتبادلهما استهداف الناقلات وسفن الشحن لكل منهما، ناهيك بالجرأة التي باتت تتَّسم بها تحركات البحرية الإيرانية في منطقة الخليج، وتزايد نشاط حركة "أنصار الله" في اليمن، على المستوى البحري.