ما بعد طوفان الأقصى... ماذا بقي من سردية جبهة التطبيع
نجحت المقاومة من خلال طوفان الأقصى في تعرية جبهة التطبيع، حيث يفترض المنطق والعقلانية ضرورة إعادة قراءة الجبهة لمشهد العلاقة مع الكيان الإسرائيلي.
لم تكن اتفاقات التطبيع الأخيرة بين الكيان الإسرائيلي وكلّ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب أولى الخطوات العربية نحو الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وتطبيع العلاقات معه، حيث كانت مصر والأردن إضافة إلى السلطة الفلسطينية سبّاقة لهذا الخيار وفق منطق عدم واقعية خيار إزالة الكيان من الوجود، واعتبار الركون إلى خيار الدبلوماسية في تحصيل ما يعتبرونه حقوق الشعب الفلسطيني خياراً وحيداً صالحاً.
وذلك انطلاقاً من قدراته العسكرية التقليدية والنووية، وأيضاً من الدعم الغربي الاستثنائي الذي تخطّى تقديم الدعم السياسي والعسكري المباشر والضروري من أجل ضمان تفوّقه، ليصل إلى تنفيذ مخطط يهدف إلى دفع الدول العربية للانخراط في مشاريع ومخططات تستهدف دمجها مع الكيان، ضمن منظومات أمنية وسياسية تلغي أي إمكانية لتحرّك أو لمبادرة قومية قد تساعد في إعادة الحق الفلسطيني والعربي إلى أصحابه.
فاتفاقيات التطبيع الأولى، أي التي جمعت الكيان الإسرائيلي ومصر، قد ارتكزت على نهائية وجود الكيان الإسرائيلي كـ "دولة" معترف بها، وعلى تبنّي خيار الدبلوماسية لاستعادة الحقوق كخيار وحيد، وتأكيد عدم اللجوء إلى أي وسيلة غير دبلوماسية لمواجهة تعنّت الكيان وإمكانية رفضه للتنازل أمام الفلسطينيين.
وإذا قفزنا فوق الاستسلام العربي لأيّ تعنّت إسرائيلي، حيث أن ما ينطبق على مصر ينطبق أيضاً على كل جبهة التطبيع، والتعهّد بعدم الخروج عن الخطوط الحمر الأميركية والغربية في التعاطي مع الكيان الإسرائيلي، فقد شكّلت مواجهة القوى المقاومة ومحاولة إلغائها أسس مقاربة جبهة التطبيع للعلاقة مع الكيان الإسرائيلي، حيث عملت على مواجهة خيارات المقاومة بكل الوسائل الممكنة من خلال محاولة عزلها وتحميلها مسؤولية أي تصعيد، والتسويق لإظهارها على أنها المسبّب الأول لكلّ ما تتعرض له بيئتها الحاضنة من خسائر.
في هذا الإطار، تنطلق جبهة التطبيع في سرديتها لتبرير تخلّيها عن خيار المقاومة لتحصيل الحقوق من ادعائها بعدم جدوى الخيار العسكري، وبإمكانية دفع الكيان الإسرائيلي للالتزام بالقرارات الأممية أو المبادرات الدبلوماسية لحل القضية الفلسطينية عبر ما ستقدّمه هذه الجبهة من مزايا أمنية واقتصادية تساعده في اندماجه في محيطه الإقليمي.
أما بالنسبة لإصرار جبهة التطبيع على تقديم جامعة الدول العربية كإطار لإحلال السلم والأمن الإقليميّين، حيث أن المبادرة العربية التي أقرّتها الجامعة في قمة بيروت 2001 ما زالت تعتبر في قاموس الجبهة صالحة لحل القضية الفلسطينية، فالواقع أن هذا الإصرار لم يساعد في إقناع الكيان بضرورة احترام حقوق الفلسطينيين أو الانسحاب من الأراضي التي احتلّها، وإنما ساعد في تحويل الجامعة من إطار عربي يستهدف الأمن القومي والإقليمي العربي إلى مجرد أداة من أدوات القوة التي تستغلها القوى الغربية في تنفيذ مشاريعها في المنطقة.
فالعقم والبطء في التحرّك الذي أحاط بدور الجامعة في ما يخص الصراع مع الكيان الإسرائيلي من فلسطين إلى الاحتلال الإسرائيلي للبنان ومرتفعات الجولان، قد انقلب سرعة وفعالية عند مقاربة قضية الحرب الأميركية على العراق أو سوريا أو الأحداث في اليمن لناحية التسويق والالتزام بالمسارات والتوجّهات الغربية.
إضافة إلى ذلك، تكمن إشكالية أخرى في مقاربة جبهة التطبيع للقضية الفلسطينية من خلال إصرارها على التعاطي مع البعد العربي كجامع لمنطلقات سياساتها. فإصرارها على دور التكامل العربي وادعائها محورية القضية الفلسطينية سيظهر انفصاماً حاداً حين يتقاطع مع تصنيفها للتطبيع ضمن محدّدات مصالحها القومية، وإصرارها على رسم سياساتها الخارجية باستقلالية تامة بعيداً عن أي التزام خارجي أو إقليمي. فمن غير الممكن التوفيق بين توجّه سيادي انعزالي يدّعي تعبيره عن مصالح الدولة القطرية، وتوجّه قومي منفتح يتمحور حول قضية بحجم فلسطين، بما يؤكد خلاصة مفادها إمكانية اعتبار هذا التوجّه مطلباً غربياً.
تركّز جبهة التطبيع على مزايا الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وما يمكن أن تقدّمه للفلسطينيين من مكتسبات أهمها حل الدولتين. غير أن ما يغيب عن هذه الجبهة ضرورة توازي خيارها، لكي يقدّم الفائدة المرجوّة للفلسطينيين، مع إظهار للقوة اللازمة لإقناع الكيان بما يمكن أن يواجهه في حال عدم اقتناعه بضرورة السير بما تعرضه هذه الجبهة. فالواقعية في العلاقات الدولية تفترض عدم تقديم الدول لأي تنازل مجاني.
وعليه، فإن ما قدّمته جبهة التطبيع من خلال تنازلها عن أدوات القوة التي يمكن أن تستثمر في الضغط على الكيان من دون مقابل تجعل من عدم استجابة الكيان لمطالبها أمراً طبيعياً، حيث يُستنتج من خلال المسار التاريخي للعلاقة بين الطرفين عدم التزام الكيان بأي تنازلات حقيقية. فالموقف الإسرائيلي من المبادرة العربية عام 2001 لم يؤكد صحة التقدير العربي بإمكانية دفع الكيان للقبول بالحلول الدبلوماسية عبر إغرائه بمزايا أو بدمجه في المحيط الإقليمي، حيث يعتبر موقف شارون منها تعبيراً واضحاً عن التوجّه الإسرائيلي. فتعليقه على المبادرة حين إطلاقها بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به يدفع للتأكيد أن فرض الغرب للحلول الدبلوماسية كإطار وحيد للتعاطي مع الكيان الإسرائيلي لم يؤدِ إلا إلى إلغاء خيار المواجهة العسكرية من قاموس الأنظمة العربية، وتجنيب الكيان خطر مواجهة شاملة مع جيرانه عند أيّ تحلّل إسرائيلي من التزام أو اتفاق.
وبالنسبة لتخلّي الجبهة عن الخيار العسكري، فإذا كان من الممكن لدى جبهة التطبيع تبرير إهمالها هذا الخيار وتجنّبه في التعاطي مع الكيان من خلال ادعاء عدم جدواه، نتيجة فشل الدول العربية مجتمعة في هزيمة الكيان الإسرائيلي عسكرياً بدليل نتيجة حرب 1967 وما أدت إليه حرب 1973، لناحية عدم قدرة الدول العربية على تحويل الإنجاز العسكري إلى نصر سياسي، وامتلاك الكيان لذراع عسكرية طويلة، إضافة إلى المظلة الغربية التي ساعدت وما زالت في مسعى عدم تحقيق أعداء الكيان لأي نصر سياسي أو عسكري، فإن ادعاءها بإمكانية دفع الكيان للالتزام بمقررات الشرعية الدولية أو القبول بالمبادرات العربية مقابل تطبيع العلاقات معه قد أثبت عدم واقعيته. فتحرير جنوب لبنان أو قطاع غزة لم يكن مدفوعاً باحترام الكيان للقرارات الدولية ذات الصلة، كما أنه لم يكن نتيجة تسوية فرضتها الدول العربية أو مؤسسات الشرعية الدولية.
وعليه، أعاد طوفان الأقصى إلى الأذهان ضرورة تقييم خيارات جبهة التطبيع حيث أكد فشل هذه الجبهة لناحية دفع الكيان للقبول بتسوية سلمية تعيد للفلسطينيين حقوقهم أولاً. فالمسار السلمي الذي تبنّته الجبهة من أجل تطويع السلوك الإسرائيلي بذريعة عدم إمكانية هزيمة الكيان عسكرياً قد سقط نهائياً في اليوم الأول للطوفان.
فإضافة إلى سقوط نظرية عدم إمكانية هزيمة الكيان عسكرياً حيث استطاعت فصائل المقاومة الفلسطينية أن تقدّم على ذلك دليلاً واقعياً، لم يُقم الكيان في تعاطيه مع غزة أي اعتبار لرد فعل الجبهة، حيث إنه أمعن في قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية مطمئناً لعدم إمكانية مراجعة هذه الجبهة لخياراتها. أما ثانياً، فقد أعاد القصف الإسرائيلي على غزة التركيز على الدور المفترض لجامعة الدول العربية حيث لم تجرؤ على إدانة الكيان الإسرائيلي منفرداً، وإنما أدانت قتل المدنيين من الجانبين، بما يدلل على فقدانها لمحوريتها واكتفائها بدور حيادي في قضية عربية مركزية.
يبقى ثالثاً أن نشير إلى الانحياز الغربي اللامحدود إلى جانب الكيان، حيث لم تستطع جبهة التطبيع أن تؤثّر في الموقف الغربي لناحية الدعم المطلق للكيان. فمن خلال مقارنة كيفية تعاطي الدول الغربية مع الأزمة الأوكرانية، حيث تمّ دفع المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكّرة توقيف بحق الرئيس الروسي، والحرب على غزة حيث تقدّم هذه الدول نفسها للكيان غطاءً غير مشروط في قصفه للمدنيين ومن دون أن تكترث لموقف حلفائها، أي جبهة التطبيع، يظهر واضحاً مدى الفشل العربي في استمالة الدول الغربية لتبنّي مواقف أكثر توازناً.
في الختام، نجحت المقاومة من خلال طوفان الأقصى في تعرية جبهة التطبيع، حيث يفترض المنطق والعقلانية ضرورة إعادة قراءة الجبهة لمشهد العلاقة مع الكيان الإسرائيلي. فالنتائج الأولية لعملية طوفان الأقصى، لناحية تقهقر الجيش الإسرائيلي أمام هجوم المقاومة وتركيزه طوال فترة الحرب على ارتكاب المجازر والتدمير الممنهج لقطاع غزة بهدف إفراغه وتهجير أهله، إضافة إلى تغييب الإطار العربي الفاعل الذي قد يساعد في موازنة الغرب لمواقفه، تقدّم دليلاً عملياً واضحاً على سقوط سردية هذه الجبهة، حيث لم يُبقِ الطوفان وما تلاه منها شيئاً.