ماذا وراء التودّد الصيني لـ"طالبان" في أفغانستان؟
يعتبر الصينيون أن المسرح مُهَيَّأ الآن للتوسع الجغرافي للممر الاقتصادي الباكستاني في غربي باكستان، وفي أفغانستان غير الساحلية.
ما إن سيطرت "طالبان" على أفغانستان حتى بدأت التصريحات الصينية الإيجابية في الظهور. فالصين تحاول أن تستفيد من الانسحاب الأميركي، عبر تعزيز تواصلها مع "طالبان"، طامحةً إلى أن تستفيد من هذه العلاقة من أجل جذب أفغانستان إلى مشروعها الاقتصادي الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الصين أن انضمام أفغانستان إلى المشروع الاقتصادي الصيني الإقليمي له انعكاسات أمنية على كل المنطقة. وتقول يون صن، مديرة برنامج الصين في مركز ستيمسون في واشنطن إن "النهج الصيني يتمثّل بأننا، من خلال الضخ الاقتصادي، نبني الطرقات، ونُنشئ البنى التحتية، ونتأكد من حصول الجميع على وظائف. فإذا ذهب الجميع إلى العمل في التاسعة صباحاً وعادوا إلى المنزل في السادسة مساءً، فلن يكون لديهم وقت كافٍ للتفكير في الإرهاب".
الممرّ الاقتصادي الصيني - الباكستاني هو إطار عمل للتواصل الإقليمي، يهدف إلى ربط مقاطعة شينشيانغ الصينية، ذات الأهمية الاستراتيجية، شماليّ غربيّ البلاد، بميناء غوادار الباكستاني، من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب، لنقل البضائع والنفط والغاز. الممرّ ليس فقط مشروعاً اقتصادياً ضخماً، بتكلفة تصل إلى 62 مليار دولار، بل يتعدّى ذلك أيضاً، ليجسّد خطة عمل الصين في آسيا الوسطى. وهو، كما تصفه الصين، "رحلة نحو الاقتصاد الإقليمي في العالم المعولم".
تمّ وضع أُسس الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني، وهو جزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية، خلال زيارة رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ لإسلام آباد في أيار/مايو 2013. في ذلك الوقت، كانت باكستان تعاني جرّاء تفجيرات منتظمة، وتشكو نقصاً مُزمناً في الطاقة، وضَعفاً في النمو الاقتصادي. التزمت الصين أداءَ دور متكامل في الاقتصاد الباكستاني، بحيث حثّ لي كلا البلدين على "التركيز على تنفيذ المشاريع ذات الأولوية، في مجال الاتصال وتوليد الطاقة وتعزيز بناء ممرّ اقتصادي بين الصين وباكستان". وفي 20 نيسان/أبريل 2015، تم إطلاق المشروع رسمياً من خلال توقيع الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف 51 اتفاقية ومذكِّرة تفاهم، بقيمة 46 مليار دولار. وهذه القيمة سُرعان ما ازدادت لتصبح 62 مليار دولار في عام 2017.
بالنسبة إلى باكستان، الممرّ سيحوّلها إلى مركز اقتصادي إقليمي يوفّر تسهيلات المرور لإحدى أهم القوى الاقتصادية في العالم. أمّا بالنسبة إلى الصين، فالممرّ سيمنحها طريقاً أقصر وأقل تكلفة للتجارة مع معظم دول آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. يربط الممر أيضاً الصين مباشرةً بالمحيط الهندي ومنطقة الشرق الأوسط، عبر ميناء غوادار في باكستان، والذي يبعد 400 كيلومتر فقط عن مضيق هرمز. وبالتالي، يتيح للصين تقليل اعتمادها على بحر الصين الجنوبي، الذي تحوّل إلى منطقة خلاف بين الصين وعدد من القوى الإقليمية والدولية، كاليابان والفليبين والولايات المتحدة.
يُعَدّ الوصول إلى المحيط الهندي عبر ميناء غوادار أمراً ضرورياً للصين، لأنه يجعلها أقلّ عرضة لـ"معضلة مضيق ملقا" الحالية، ويوفر الأمن الاقتصادي للصين عبر الوصول إلى غربي آسيا، في وقت أصبح مضيق ملقا محلَّ نزاع على نحو متزايد بين مختلف اللاعبين، بما في ذلك الصين. ومضيق ملقا طريق طبيعي للمياه، يربط بحر أندامان في المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي في المحيط الهادئ، ويمتد بين جزيرة سومطرة الإندونيسية من الغرب، وشبه جزيرة ماليزيا من الشرق وجنوبي تايلاند إلى أقصى الشرق. وعليه، فالمضيق يحظى بأهمية كبيرة في التجارة العالمية، كونه قناة الشحن الرئيسة بين المحيط الهندي والمحيط الهادئ. فهو يربط أقوى الدول الاقتصادية الآسيوية، مثل الهند والصين وتايوان والفليبين، بعضها ببعض، كما أنه يربط هذه الدول بالاقتصاد العالمي. مشكلة المضيق أنه أصبح، بسبب موقعه الاستراتيجي، ساحةً للصراعات السياسية وعمليات القرصنة. وبما أنّ ما يتراوح بين 70% و80% من صادرات الصين في مجال النفط والغاز يمر عبر المضيق، أصبح ضرورياً لها البحث عن بديل لا يتأثر بالصراعات السياسية الكبرى، ولا تتحكّم فيه دول غيرها. لذلك، يُعتبر ميناء غوادار، الذي يوفّر ممراًّ بديلاً للصين من المحيط الهندي، ذا قيمة استراتيجية كبيرة لها.
خارجيّاً، يتمثّل الهدف الاستراتيجي الرئيسي لغوادار بأن يصبح للصين مَخرج إلى المحيط، أي طريقٌ مباشِر عبر البنية التحتية الصينية، من أجل تأمين الوصول إلى الفضاء الاستراتيجي والموارد في شمالي المحيط الهندي والخليج الفارسي. أمّا داخلياً، فتُعد غوادار امتداداً لسياسات الأمن القومي والتنمية في الصين، فتسعى بكين لتطوير الروابط التجارية بين غربي الصين وباكستان وآسيا الوسطى لتعزيز النمو الاقتصادي، والتقليل تالياً من المخاطر على الاستقرار الاجتماعي في شينشيانغ.
الممرّ لن يفيد الصين وباكستان فحسب، بل سيكون له أيضاً تأثير إيجابي في إيران وأفغانستان ومنطقة آسيا الوسطى كلّها. فتعزيز الروابط الجغرافية والتعاون بين الدول، عبر تحسين نظام النقل البري والسكك الحديدية، وتعزيز التبادل الثقافي عبر الجامعات، وتشجيع أكبر لتدفق التجارة والأعمال بين دول آسيا، والعمل في مجال إنتاج الطاقة ونقلها، ستؤدي، مجتمعةً، إلى منطقة مترابطة جيداً ومتكاملة.
بالتأكيد، لا يمكن لأحد أن يُغفل المواقف المعادية للممر. فالولايات المتحدة هي من أشد المعادين لهذا المشروع، لأنه يعكس زيادة في نفوذ العدو الاستراتيجي لها. كما أن الهند، التي تحاول مزاحمة الصين في الصراع على النفوذ الإقليمي لآسيا، تعتبر الممر تهديداً لها، بسبب ما له من آثار كبيرة في انتشار الصين وتقييد النفوذ الهندي. لذلك، تعتبر الهند أن ميناء تشابهار الإيراني، الذي كان يهدف إلى تسهيل التجارة الهندية مع أفغانستان وآسيا الوسطى، بمثابة ثقل مُوازن لميناء غوادار الباكستاني، المدعوم من الصين. وسهّلت الولايات المتحدة الاستثمار الهندي في تشابهار، عبر إعفاء الميناء من العقوبات الأميركية القاسية ضد إيران، في محاولة لتعزيز هذا الميناء، على حساب الميناء في باكستان.
تدرك الصين أن نجاح مشروع كهذا يرتبط بالأمن الإقليمي للمنطقة. ففي نيسان/أبريل 2015، وفي أثناء التوقيع على الاتفاقيات والمعاهدات الخاصة بالممر، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ "إن تعاوننا في المجالات الأمنية والاقتصادية يعزّز البلدين، ويجب العمل في المجالين في وقت واحد". هذا الأمر يعني أن التعاون الأمني هو أساس نجاح المشروع الاقتصادي. وبالنظر إلى الأوضاع حالياً في أفغانستان، يمكن الاستدلال على أن أبرز ما تتخوّف منه الصين في الوقت الحالي، هو تدهور الوضع الداخلي في أفغانستان، وانتقال التوتر من أفغانستان إلى الدول المجاورة، وخصوصاً باكستان، الأمر الذي قد يشكّل تهديداً للممرّ الاقتصادي الصيني ــ الباكستاني.
فالصين، منذ البداية، تسعى لإشراك العدد الأكبر من دول آسيا في الممر، لتصبح لها اليد الأعلى في الاقتصاد الآسيوي. ففي عام 2018، قال السفير الصيني في إسلام آباد، ياو جينغ، "يجب أن نجعل هذا التعاون الثنائي لمشروع الممر منصةً أخرى لتعاون، أو تواصل إقليمي أفضل. هذا التطور الاقتصادي لباكستان هو في الواقع فرصة في التنمية الاقتصادية الإقليمية الكاملة".
لذلك، يعتبر الصينيون أن المسرح مُهَيَّأ الآن للتوسع الجغرافي للممر الاقتصادي الباكستاني في غربي باكستان، وفي أفغانستان غير الساحلية. وفي العام نفسه، قال مشاهد حسين، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الباكستاني، "لقد حان الوقت الآن كي يتخطّى الممرّ الاقتصادي الصيني ــ الباكستاني باكستان والصين، ويجب أن يكون الامتداد، أو التوسع الطبيعي للممرّ، في اتجاه أفغانستان، لأن لها حدوداً مع باكستان والصين. وهذه الدول الثلاث لها علاقة طبيعية، من حيث الاقتصاد والثقافة والجغرافيا".
بالإضافة إلى الموقع الجغرافي المهم لأفغانستان في آسيا الوسطى، فإن اهتمام الصين بإشراك أفغانستان في الممر ينبع أيضاً من حقيقة أن أفغانستان تجلس على موارد طبيعية تُقَدَّر بتريليون دولار من الليثيوم والنحاس والذهب والحديد الخام وغيرها.
من هنا، يمكن للمهتم بالسياسة الدولية أن يفهم الموقف الصيني من الأحداث الأخيرة في أفغانستان. فالرسائل الإيجابية من الصين تحمل في طيّاتها مشروعاً استراتيجياً، له آثار اقتصادية وأمنية في المنطقة كلّها. وبالتالي، يمكن الاستنتاج أن الصين لا ترى في انضمام أفغانستان إلى الممرّ الاقتصادي فقط مشروعاً اقتصادياً مربحاً، يهدف إلى زيادة نفوذها الإقليمي، بل يتعدّى ذلك أيضاً ليكون خطة لجذب "طالبان" نحو التعاون الاقتصادي، في محاولةٍ لإبعادها عن طبيعتها المتشدّدة، والتي من الممكن أن تؤثّر في المشاريع الصينية في آسيا الوسطى.