لهذه الأسباب أرجأت إيران مفاوضات فيينا
ما هي المتغيّرات، وأين هي عناصر القوة المستجمَعة، والتي تقول إيران إنها اكتسبتها بعد الانتخابات؟
حتى ما قبل نحو أسبوع، لم تكن صحف التيار السياسي الأصولي في إيران توفّر جهداً لمهاجمة مفاوضات فيينا، الرامية إلى التوصّل إلى توافق مع الدول الغربية على العودة الجماعية إلى الاتفاق النووي.
وفجأة، قبل أيام قليلة, توقّفت هذه الصحف عن مهاجمة المفاوضات. والأكثر من ذلك، بدأت تنشر التصريحات والأخبار المتعلقة بالمفاوضات، ببراءة وحيادية.
في المقابل، انتقلت صحف محسوبة على التيار السياسي الإصلاحي إلى خانة التشكيك في مصير المفاوضات والاتفاق النووي، وأخذت تفتّش في نيّات الاصوليين وما يبيّتون للاتفاق في المرحلة المقبلة، وهو ما اعتبره الأصوليون محاولة للضغط على اقتصاد البلاد والتأثير فيه، وفي آمال الشارع وتطلعاته، ثم التشويش على حكومة إبراهيم رئيسي.
فهل هي مؤشّرات تشي بأن السيد رئيسي اتَّخذ الموقف حيال مصير المفاوضات، ومستقبل الاتفاق النووي؟
إن إعلان كبير المفاوضين الإيرانيين، عباس عراقتشي، إرجاءَ مفاوضات فيينا في جولتها السابعة إلى ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة، لم يكن مفاجئاً. ومن البديهيّ أن تتفهّم الأطراف الأخرى أن إيران دخلت مرحلةَ انتقال السلطة من رئيس منصرف إلى رئيس منتخَب. وهذا الأخير في حاجة إلى الوقت كي يعكف على قراءة ما توصّلت إليها المفاوضات في جولاتها الستّ.
تفهّمت الولايات المتحدة الإعلان الإيراني بشأن التأجيل، وقالت إنها في الانتظار، وإنها تدرك حقيقة أن أيّ فريق تفاوضي في حاجة إلى مرجعية رسمية وفاعلة يعود إليها في أثناء المفاوضات.
إلى ذلك، يسود اعتقاد في طهران، مفاده أن المؤسسة السياسية الإيرانية راضية عن مسار المفاوضات، وأنها حقّقت أغراضها خلال الأشهر الأربعة الماضية. وساعدت، في الحد الأدنى، على استقرار نسبي للاقتصاد، وعلى إجراء الانتخابات الرئاسية بعد أن راهنت دول وأجهزة مخابرات وجماعات المعارضة على نسف الانتخابات تحت طائلة الضغوط الاقتصادية.
وكحصيلة لمارثون التفاوض، تشير التسريبات إلى أن الولايات المتحدة وافقت على رفع العقوبات بالكامل عن قطاعات أساسية واستراتيجية، هي: النفط والغاز والبتروكيمياويات، النقل البحري والجوي، البنوك ونقل الأموال، بالإضافة إلى رفع العقوبات عن قائمة طويلة من الشخصيات السياسية والعلمية والعسكرية ومؤسسات إيرانية مهمة.
أما ما تبقّى فهو خاضع لما ستسفر عنه سياسة عضّ الأصابع حتى ربع الساعة الأخير، بين عراقتشي وروبرت مالي، من أجل جني مزيد من المكاسب، في حين يسود اطمئنان هنا في طهران إلى أن موقفها اليوم بات أقوى كثيراً من الأيام الأولى لانطلاق المفاوضات.
لكن، ما هي هذه المتغيرات؟ وأين هي عناصر القوة المستجمَعة، والتي تقول إيران إنها اكتسبتها بعد الانتخابات؟
داخلياً، في إيران رئيس منتخَب، دخل بقوة عهداً جديداً، وخرج فائزاً من صناديق الاقتراع التي شهدت ملحمة وطنية قادها الشعب بجدارة، بعد تحدّ ورهان تنافسي مع قوى الضغط الخارجية وعوامل التيئيس الداخلية.
يشعر السيد إبراهيم رئيسي بأن فوزه في الانتخابات، في ظل ظروف صعبة ومعقّدة، لا شكّ في أنه سيزيد في قوته كرئيس للبلاد له دور كبير في وضع السياسات الخارجية.
وفي حالات قليلة في تاريخ نظام الجمهورية الإسلامية، يتولى رئيس منصبه وهو في حالة انسجام مع السلطتين التشريعية والقضائية ومؤسسة الأمن القومي. وبالتالي:
· حظي الرئيس المنتخَب بوَحدة وانسجام تامَّين بين قنوات إنتاج القرار في النظام.
· لتتويج هذا التكامل في القرار، من المتوقَّع أن يبارك المرشد الأعلى عهدَ السيد رئيسي بمنحه صلاحيات أوسع في تنفيذ السياسات، داخلياً وخارجياً.
· الانسجام بين السلطات سيجعل الجميع يتحمّل مسؤولية أيّ موقف أو قرار، سواء بشأن الاتفاق النووي والمفاوضات، أو بشأن ما يتعلق بالسياسات الخارجية، وذلك على العكس مما حدث مع الرئيس حسن روحاني، الذي تُرك وحده بعد خروج ترامب من الاتفاق النووي.
وكي يكتسب قوة وتأثيراً كبيرَين، يحتاج الرئيس الجديد، إلى حين استئناف المفاوضات، إلى أن يستكمل برنامجه، عبر ترتيب البيت السياسي الداخلي، وتجسير المصالحة مع القوى والجماعات التي لم تصوّت له، والسعي لدمجها في بوتقة الوحدة الوطنية. وهو هدف أساسي ومهمّ بالنسبة إلى السيد رئيسي كي ينطلق بقوة لمعالجة الملفّات والمشكلات المُتوارثة.
خارجياً، لدى الإيرانيين قراءات معمّقة، ويعتقدون أن العالم بات في حاجة إلى إيران من أجل التوصّل إلى صفقة، يعود من خلالها الجميع إلى تطبيق الاتفاق النووي.
على الصعيد الأميركي، تبدو الولايات المتحدة ملتبسة بشأن الوضع الأفغاني. وتشير المعلومات إلى أنها غير واثقة بإمكان تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وصوابية انسحابها من هذا البلد. لهذا، فهي نقلت قواتها إلى مقربة من أفغانستان، وأعادت نشرها في الكويت وقاعدة إنجرليك التركية وباكستان المجاورة.
مع هذا الوضع الأميركي القَلِق، فإن إدارة جو بايدن في حاجة إلى هدوء مشفوع بتسوية، ولو موقّتة، مع إيران، عبر نافذة الاتفاق النووي، لتحقيق خروج آمن من مناطق أخرى في الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، نفهم من المخاوف الإسرائيلية، أن لهاث أميركا خلف إبرام الاتفاق، ووفق أيّ صيغة مع إيران ولو مرحلية، هدفه قطع الطريق أمام أيّ تصرّف أرعن تجاه طهران، تُقْدم عليه الثنائية الهشّة والموتورة والحاكمة في "تل أبيب".
بالإضافة إلى الولايات المتحدة، واضح أن الأوروبيين هم أيضاً في حاجة إلى التهدئة مع إيران، بعد فشل "الناتو" في أفغانسان، في وقت صعّدت روسيا من حدة ردودها حيال الاعتداءات على مناطق نفوذها في شرقي القارة العجوز وعند الممرات المائية، والتي بات يخشاها "الناتو"، إلى حدّ تلويح قادة الكرملين بالاستعداد للحرب. وليَكُنْ ما يكون.