لبنان... أزمة حُكم أم أزمة خيارات؟
نرى لبنان وشعبه يدفعون أثماناً باهظة مع كلّ تحوّل إقليمي أو دولي، وعند كلّ استحقاق داخلي خاصة الانتخابات الرئاسيّة.
يدور صراع سياسيّ ورئاسيّ في لبنان، وصل إلى شكل نظام الحكم، حيال خيارات متعاكسة ومتضاربة، منها واضحٌ وبعضها مرتهنٌ، وذلك في خضمّ لحظة مفصلية قد تكون شبه تاريخيّة في التحوّلات التي تحدث مرّة كلّ 200 عام.
ولا يزال لبنان يعاني من أزمة نقص في المناعة السياسية والاستقلالية، ليؤكّد واقعُه السياسي أنّه كيان مركّب يرفض وجوده وموقعه الجغرافي وأهميّة مرافئه، وتنوّع ثقافته، وقدرة أبنائه وسعة انتشار مغتربيه. لذا نراه وشعبه يدفعون أثماناً باهظة مع كلّ تحوّل إقليمي أو دولي، وعند كلّ استحقاق داخلي خاصة الانتخابات الرئاسيّة.
في العام 1945، دفع اللبنانيون ثمن الاستقلال وسلّمت فرنسا الدولة إلى فئة أخذتها إلى خيارات غامرت فيها بمصير لبنان وحكمت بالتمييز بين أهله. بعدها حوّلت الفئة نفسها القضية الفلسطينية إلى حرب أهلية، لتستنجد في إثر ذلك بسوريا وجيشها قبل أن تعود وتنقلب عليها. كما أنها أيّدت الاجتياح الإسرائيلي خدمة لمصالحها، فدُمّر البلد وبات تحت الاحتلال مجدّداً، وجرت محاولات لترسيخ نموذج يقوم على مقولة "قوّة لبنان في ضعفه"، حيث تسود ثقافة الخوف والارتهان.
لقد كانت جميع المراحل التي مرّ بها لبنان سلبيّة منذ اندلاع الحروب الداخلية في العام 1975، التي تنوّعت بين طائفية ومذهبية وسياسية وأهلية، وانتهت جميعها بنتيجة "لا غالب ولا مغلوب"، باستثناء الحرب مع العدو الإسرائيلي، والتي حقّقت فيها المقاومة انتصارات مدويّة.
راهناً، تعيش منطقة الشرق الأوسط عموماً تحوّلات كبرى، ليس سياسيّاً فحسب، بل على المستوى الاقتصادي أيضاً:
1- التحوّل العربي مع الجمهورية الإسلامية، والاتفاق السعودي -الإيراني في بكين بعيداً عن الرضى الأميركي.
2- التقارب الخليجي-السوري وانعكاساته على المنطقة وأهمية ملف إعادة إعمار سوريا، وعودة النازحين من الأردن وتركيا والعراق ولبنان.
3- التحوّل العربي بالعلاقة مع الصين وتوقيع اتفاقيات شراكة سياسية–اقتصادية مهمة، بين بكين ودول مجلس التعاون الخليجي عامة والسعوديّة خاصة، كما كانت القمة العربية الصينية لافتة في هذا الإطار.
4- انضمام دول نفطية إلى منظمة "بريكس" كأعضاء ثابتين، مثل السعودية والإمارات والجزائر والبحرين، إضافة إلى إيران.
5- الاتفاق بين الصين من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، على توقيع عقود النفط المقبلة بالعملات المحلية، وليس بالدولار.
6- رؤية 2030 الاقتصادية في السعودية التي تدعو الدول العربية وصولاً إلى البحر المتوسّط إلى التشبيك الاقتصادي.
7- رؤية العراق للتنمية الاقتصادية التي تعتبر أنّ لبنان بمرافئه، وخاصة في طرابلس، هو نقطة انطلاق أساسيّة إلى أوروبا.
8- توسّع الخلاف الأميركي-العربي من ناحية الخيارات والتوجّهات.
9- الترتيبات المالية والنقدية الجديدة التي تأخذ النظام العالمي إلى تعددية قطبية مالية، مع التغيّرات الكبرى التي طرأت على مستوى نظام التجارة العالمي والمرافئ ونظام السويفت.
10- إنشاء بنك التنمية الصيني، الذي سيكون منافساً بالحد الأدنى لصندوق النقد الدولي، بعيداً عن الارتهان السياسي، وعاملاً مساعداً لمنظّمتي "بريكس" و"شنغهاي".
11- خطوط أنابيب نقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا ستكون خارج منظمة شرق المتوسط التي يقودها العدو الإسرائيلي.
12- عدم قبول الدول العربية الكبرى بالتطبيع مع العدو، والحاجة الملحة إلى قيام بيروت بدورها بإنهاء أيّ خطوات ومفاعيل للتطبيع الاقتصادي.
بعد هذه التحوّلات، من الواجب أن نسأل عن مسار لبنان المستقبلي وخياراته ودوره، خاصة مع بروز مشاكل جوهريّة بين الولايات المتحدة والعرب، وخاصة السعودية، والتحاق الدول العربية باتفاقيات كبرى مع الصين في خطوة أساسيّة للتوجّه شرقاً.
وهل توجّهات الإقليم خارج إطار التطبيع، وهي في الأصل تخدم المصالح اللبنانية، ستعكس أزمة داخليّة تزيد من أزمة الحكم؟ أم أنّ لبنان سيتخذ هذه المرّة خيارات صحيحة من شأنها أن تحدّد دوره السياسي والتشبيك الاقتصادي المطلوب خارج سياسات ومصالح الغرب في تفكيك المنطقة والبلاد انطلاقاً من بلاد الأرز؟