قيمة الاغتيالات السياسية
إذاً أين هو الإنجاز الذي يرى الكيان الصهيوني ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو أنه تمكّن من تحقيقه بحيث يتكلم بكلّ هذه الثقة حول تغيير الشرق الأوسط؟!
ما هي القيمة التي يمكن أن يحقّقها أيّ طرف في صراع سياسي أو عسكري من الاغتيال؟
على عكس ما يعتقده الكثيرون بأنّ الاغتيالات السياسية قد تؤدي إلى قيام دولة أو نظام أو حتى حركة سياسية بتغيير توجّهاتها أو بتقديم تنازلات، فالواقع أنّ مثل هذه التصوّرات لم تكن أبداً واقعية، إلا بحالات نادرة.
من الناحية التاريخية، وخلال التاريخ الإسلامي، تعرّضت العديد من الشخصيات الإسلامية للاغتيال، وعلى رأسهم أئمة أهل البيت (ع) من طرف أعدائهم سواء أكانوا الأمويين أو العباسيين، لكن غيابهم لم يؤثّر كثيراً على حركة انتشار التشيّع أو حتى على محبة عموم المسلمين وميلهم لهؤلاء الأئمة، بل إن غيبة الإمام الثاني عشر رغم ما نتج عنها من اضطراب في الوسط الشيعي سرعان ما تمكّن وكلاء الإمام الأربعة من إعادة ترتيب البيت الشيعي وقطع الطريق على مدّعي الإمامة ومدّعي الاتصال بالإمام الثاني عشر بتحريض من السلطة العباسية، ومنعهم من استغلال الموقف لتحويل الجماهير الشيعية إلى داعمة ومؤيّدة للعباسيين.
في التاريخ الأكثر قرباً، وعقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، تعرّضت العديد من قيادات الثورة للاغتيال وعلى رأسهم الشهيد بهشتي، الذي كان يعتقد أنه المرشح الأبرز لخلافة الإمام الخميني (قده)، في تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي، والذي أودى بحياة 60% من رجال الإمام، بالإضافة إلى الشهيدين رجائي والدكتور باهنر، لكنّ مثل هذه الاغتيالات لم تؤدِ على الإطلاق لتخفيف العداء الذي تكنّه الجمهورية الإسلامية للأميركيين أو الكيان الصهيوني.
ومنذ بداية نضال حزب الله في جنوب لبنان ضد الكيان الصهيوني، قام الأخير بالعديد من عمليات الاغتيال، بينها اغتيال الأمين العام للحزب السيد الشهيد عباس الموسوي، لكن النتائج لم تكن مبشّرة بأيّ نوع من التراجع لدى عقيدة الحزب أو توجّهاته، بل شهدت المرحلة التالية تحقيق إنجازات كتحرير الجنوب عام 2000 والانتصار في عام 2006.
ما يقال عن حزب الله ينطبق كذلك على حركات مقاومة أخرى كحركتي الجهاد الإسلامي التي اغتيل مؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي، وحماس التي تعرّض مؤسسها الشهيد أحمد ياسين للاغتيال، وبعد أقلّ من شهر اغتيل رئيسها التالي الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وكذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تعرّضت لاغتيال أمينها العام الشهيد أبو علي مصطفى ثم اعتقال أمينها العام التالي أحمد سعدات؛ وفي كل هذه الحركات ورغم قسوة الضربات التي وجّهت إليها، وأهمية الشخصيات التي تمّ اغتيالها، لم تسقط أيّ منها سلاحها المقاوم، ولم تغيّر موقفها الرافض للكيان الصهيوني.
ربما تمثّل عملية الاغتيال انتصاراً تكتيكياً في حالات قليلة، إذا كان العدو يرغب في فتح الساحة لقيادة بديلة يمكنه التعامل والتفاهم معها وتحقيق إنجازات عبرها، وهنا فقط يمكن لأيّ طرف في الصراع العسكري أن يستخدم الاغتيالات كوسيلة لإنهاء الصراع بشروط مرضية له، حيث لا تسيطر الحالة العقائدية على الدولة أو الحركة السياسية بما يكفي لمنع مثل هذه التجاوزات، أو يتمّ تفخيخهما بدفع عناصر انتهازية لمواقع القيادة والقرار، كما حدث في الاتحاد السوفياتي بعد وفاة الزعيم جوزيف ستالين أو في مصر بعد وفاة الزعيم عبد الناصر، وكلاهما تتناثر الشائعات عن وفاتهما بصورة مريبة.
إلا أن هذه الوسائل لا يمكن استخدامها بنجاح مع الدول والأحزاب والحركات العقائدية والتي يمثّل العداء للرأسمالية وللكيان الصهيوني جزءاً أصيلاً من تكوين قادتها الفكري وجماهيرها. والمتابع لتراث الاغتيالات السياسية التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد حركات المقاومة، يمكنه أن يلحظ بوضوح أن اغتيال قيادة ما يؤدي إلى وصول قيادة أخرى أكثر حذراً وتشدّداً ورغبة في الانتقام من العدو، بل أنها في الغالب تتمكّن من تحقيق انتصارات وإنجازات كبرى في مواجهة العدو أو في تطوير قدرات الحركة أو الحزب المقاوم الذي تقوده.
لو تناولنا حزب الله كحالة نشأت في البيئة الشيعية الاثني عشرية، فالأمر يتجاوز مجرد التعامل القوي مع الاغتيالات، وبالرغم من أن تاريخ هذه البيئة منذ نشأتها ينظر بمنتهى القدسية لقيادة أئمة أهل البيت، لكنه في الوقت نقسه اعتمد على الوعي والمسؤولية الجماهيرية في حالة غياب القيادة.
فمنذ وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق، ومع استشهاد أو وفاة أي إمام، كانت تبرز بعض الدعوات الشاذة التي تنكر وفاة الإمام أو تدّعي الإمامة لغير مستحقّها من أبناء البيت العلوي، والتي كانت تنتشر لفترة زمنية بسيطة نظراً لحالة السرية والقيود على الحركة التي كان الأئمة يعانون منها، لكنها سرعان ما كانت تنزوي لما تمتعت به الجماهير الشيعية من وعي.
وطوال ما يقرب من 12 قرناً، أي منذ اختفاء الإمام الثاني عشر، تدرّبت هذه الجماهير على حمل المسؤولية في ظل غياب القيادة، ودعمت الوكلاء الأربعة للإمام الثاني عشر في مهمة لمّ شظايا الطائفة عقب هذا الاختفاء وحالة الارتباك والشكوك التي أصابت بعض الأتباع وأدّت لاتباعهم طوائف أخرى برزت في الوسط الشيعي مستغلة الوضع المضطرب.
بل إن الدولة العباسية حاولت أن تدلو بدلوها عبر محاولة فاشلة لدعم مرشح من الأسرة العلوية لشغل هذا المنصب وهو جعفر بن الإمام علي الهادي والذي لقّبه الشيعة بجعفر التوّاب.
خلال هذا التاريخ الطويل وما حمله من تقلّبات، تعلّم الشيعة الدرس جيداً وهو ضرورة وجود قيادة بديلة تشغل الموقع الشاغر في حالة غياب القيادة الكبرى، وتسير على منهجه وتعاليمه نفسها مع الوضع في الاعتبار حالة المتغيّرات.
وبالتالي فبالرغم من شعور قيادات الحزب وجماهيره بحجم الخسارة التي يمثّلها فقدان قائد بمستوى الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، فلا يبدو أن قيادات الحزب تشعر بأيّ تغيير في الخطط أو المسار الذي يجب أن تتوجّه إليه، وسرعان ما ستؤول الأمور لقيادة جديدة تحقّق الإنجازات التي يخطّط لها الحزب بكلّ قوة، وستتعامل معها الجماهير كما تعاملت مع الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، كونها اعتادت تماماً على التعامل بمنتهى المسؤولية والولاء مع هذا الموقف المتكرّر في تاريخها.
إذاً أين هو الإنجاز الذي يرى الكيان الصهيوني ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو أنه تمكّن من تحقيقه بحيث يتكلم بكلّ هذه الثقة حول تغيير الشرق الأوسط؟!
يمكنني أن أجزم أنه ليس ثمة إنجاز سياسي أو عسكري حقيقي يمكن أن يدّعي الكيان الصهيوني والأميركيون بأنهم حقّقوه، مع الاعتراف بأن خسارة شخصية كسماحة الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، ومن قبله الشهيد إسماعيل هنية وغيرهم من الشهداء القادة في الحركات المقاومة، هي بكلّ تأكيد فادحة للغاية، لكن الواضح أن العدو الصهيوني ليس في الظرف المناسب للاستفادة من دروس التاريخ الآن وهذا نتيجة الأزمة الوجودية التي يعاني منها حالياً.
تمثّل معرفة العدو وطريقته في التعاطي مع الأمور واتخاذ القرارات عاملاً مهماً جداً في المواجهات سواء كانت سياسية أو عسكرية، وهو العامل الذي فقده الكيان الصهيوني حالياً، وبعد فترات طويلة ومواجهات متعددة بين قادته وبين قادة الصف الأول من المقاومة، ونتج عنها بعض الخبرات المؤكدة في التعامل معهم، أصبح على قادة العدو الآن التعامل مع قيادات جديدة لا يعرفون عنها سوى أنها أكثر تشدّداً، ومن المؤكّد أنها سوف تكون أكثر حذراً وأشد رغبة في الاندفاع نحو المواجهة محمّلة برغبة جامحة في الثأر، والأهم أن قادة الكيان لا يعرفون أصلاً كيفية ردود أفعالها وطريقة اتخاذها للقرارات وتعاملها مع المستجدات على ساحة المعركة، ولا حتى أساليبها القتالية، أي أن الكيان الصهيوني يحرق خزّان معلوماته ويلقي بنفسه أمام عدو مجهول بالنسبة إليه ليبدأ جمع المعلومات والخبرات من نقطة الصفر.
إذاً لا يبحث العدو الصهيوني عن النصر العسكري والسياسي من هذه التصرّفات الساذجة بقدر ما يسعى للبروز الإعلامي والترويج لنفسه كقوة باطشة ومطلقة الصلاحيات في المنطقة، فمثل هذه الممارسات الغرض الأساسي منها هو بثّ الرعب والذعر لدى الجماهير العربية وخاصة الجماهير الداعمة لكلا الحركتين، في محاولة يائسة لوضع الحواجز بينهما، والفصل بين المقاومة والشارع العربي تمهيداً لبروز ذوي الحلول الاستسلامية بدعوى العقلانية والواقعية وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية 99% من أوراق اللعبة، وهو ما يسمح بترتيبات جديدة في الشرق العربي تضمن تمويل أوضاع الكيان الصهيوني ورفاهيته واستقراره من الجيوب العربية ذاتها، ومن ناحية أخرى إقناع الرافد اليهودي في أوروبا الشرقية، وخاصة روسيا، بأن الهجرة إلى الكيان الصهيوني في فلسطين تمثّل حلّاً وجيهاً، بما يكفل لهذا الكيان استمرار تدفّق الخزّان البشري اليهودي إليه.
إن ما يفعله الكيان الصهيوني من ارتكاب للمجازر واغتيال لقادة المقاومة، لا يمثّل في جوهره سوى محاولة بائسة للغاية كي يتخلّص من حرب الاستنزاف الطويلة التي تشنّها عليه المقاومة، والتي صارت تتسع وتحيط به من جهات متنوّعة تدريجياً، وجاءت الضربة الصاروخية الإيرانية لتظهر بوضوح تام مدى عجزه وحتى عجز الولايات المتحدة الأميركية عن حمايته وتجنّب المصير المحتوم الذي ينتظره.