قمة العشرين في نيو دلهي... توافق صيني روسي على المواجهة
القرارين الروسي والصيني بشأن عدم الحضور إلى نيودلهي لا يمكن تحليلهما من خلال ظروف كِلا البلدين فقط، وإنما يُفترض البناء على ما يمكن أن ينتج من هذا الغياب.
من حيث الشكل، لم تتباين الظروف التي تحيط بقمة العشرين، التي تُعقد في نيو دلهي، عن تلك التي عُقدت العام الماضي في بالي الإندونيسية، لناحية استمرار الصراع الجيوسياسي المعقَّد بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، وروسيا والصين وعدد من الدول الأخرى من جهة ثانية.
فالظروف، التي سادت عند تأسيس المجموعة عام 1997، لناحية التسليم الدولي بالقيادة الأميركية للنظام الدولي وقبول طروحاتها بشأن معالجة الأزمة المالية العالمية، بالإضافة إلى القضايا العالمية الأخرى التي تتخطى إمكان حلها قدرات دولة واحدة، تغيّرت بحيث إن الأعوام الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً على مستوى العلاقات الدولية.
فالمهادنة ومحاولة تجنب المواجهة المباشرة مع القطب الأميركي، واللتان صبغتا السلوك الصيني، بالإضافة إلى المسعى الروسي لتأسيس علاقاته بالجوار القريب والمنطقة الأوروبية، وفق منطق المنظور التاريخي والاعتماد المتبادل، الذي يرى في أوراسيا مساراً مساعداً على عملية تغيير أسس النظام العالمي من دون حدوث مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، كانت تفترض المحافظة على الحد الأدنى من المشاركة في منظومة أدوات الأحادية، بحيث إنها كانت تشكل السبيل الوحيد المتوافر إلى التأثير في التوجهات الأميركية والدولية.
غير أن الواقع الدولي، الذي أظهر مخاطر استراتيجية الهيمنة الأميركية الشاملة على العالم، لناحية أنها غير منضبطة ومكلفة ويُفترض الدفع في اتجاه الحد من مخاطرها عبر إجبار الولايات المتحدة الأميركية على تغييرها وتبني استراتيجية جديدة تتصف بضبط النفس والاكتفاء بالمحافظة على مصالحها القومية الضيقة.
فالمجموعة، التي يُسوقها على أنها منتدى للقيادة العالمية، والتي استطاعت منذ تأسيسها أن تكرس دورها إطاراً للتأثير في التوجهات العالمية وأن تؤدّي دوراً أساسياً في تشكيل الهيكل العالمي للإدارة وتعزيزه، إلى جانب مؤسسات أخرى، مثل بريتون وودز وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، فقدت في الأعوام الأخيرة من جاذبيتها لدى الصين وروسيا، وتكرست في وعيهما السياسي كإحدى الأدوات الغربية التي تنحصر وظيفتها في تخفيف اندفاعتهما إلى تبني أطر مستقلة عن المؤسسات ذات التوجه الغربي والتوجه الأميركي.
كما أن القمة السابقة، التي عُقدت في بالي الإندونيسية، وما سبقها من لقاءات تحضيرية، أظهرت ميلاً غربياً إلى تحويل المجموعة إلى منبر للتعبير عن رفض بعض الدول للسياسات الروسية وعمليتها في أوكرانيا. وإذا كان المفترض أن يتم التركيز على كيفية معالجة القضايا الاقتصادية والتنموية العالمية الملحة، فإن المسعى الأميركي ـ الغربي للضغط على الصين في تلك القمة، ومحاولة فرض أسس لتنمية العلاقات بها، لم يكونا بعيدين عن محاولة تطويق محاولاتها المشتركة مع روسيا لتغيير أسس النظام الدولي وقواعده.
فالتركيز، أميركياً وغربياً، في قمة نيودلهي على الأثر الذي تخلّفه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في السلم والأمن الدوليين، وفي الأمن الغذائي العالمي، وإظهارها على أنها تستهدف الدول النامية، بالإضافة إلى إشارة الولايات المتحدة إلى ضرورة إعادة تشكيل البنك الدولي من أجل مواجهة الصين، من خلال توفير وسيلة بديلة لتمويل مشاريع التنمية بصورة منفصلة عن بكين، أظهر أنه لن يكون من الممكن الحكم على هذه القمة كمبادرة عالمية مستقلة يمكن تحييدها عن الصراعات والتجاذبات الدولية.
وعليه، وإن تباينت الرسائل أو الدوافع الكامنة خلف غياب الرئيسين الروسي والصيني، أو كيفية مقاربة توجهات القمة لدى كل منهما، فإن النتيجة الأساسية، التي يمكن التوصل إليها عند محاولة تحليل موقفهما، تثبت توجهاً لإثبات رفضهما لآليات العمل الدولية التي صبغت الدورة التاريخية الأخيرة، والتي كان عنوانها تفوق الولايات المتحدة الأميركية وتفردها في إدارة النظام الدولي، سياسياً وعسكرياً ومالياً.
من ناحية روسيا، لا يمكن تحليل غياب الرئيس الروسي عن القمة في الهند من خلال خوفه من إقدام الهند على تنفيذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية، القاضية بتوقيفه.
فالموقف السياسي الهندي لم يكن معادياً لروسيا عند شنها عمليتها العسكرية في أوكرانيا. كما أن الواقعية السياسية تفترض عدم التفكير أصلاً في تنفيذ هذه المذكرة، بحيث إنه لا يمكن للهند أن تقارب علاقاتها بجارتها النووية وفق منطق المحكمة الجنائية غير الحيادي، بحيث ظهر عجزها في التعاطي بموضوعية ومهنية في قضايا سابقة.
فالعالم لم يبتلع بعد قرارها بالتراجع عن التحقيق في جرائم حرب أميركية محتملة في أفغانستان بسبب تعرضها موظفيها لعقوبات أميركية. وعليه، فإذا كان من الممكن تبرير هذا الغياب من خلال الحرص على عدم تعريض الهند لمشكلات لا تريدها مع الغرب، فيمكن أيضاً قراءة الموقف الروسي الحقيقي من المجموعة من خلال تعبير وزير الخارجية الروسي عن حرصه على عدم صدور بيان ختامي، إذا لم يكن معبّراً عن موقف روسيا بشأن الحرب في أوكرانيا.
وبالتالي، فإن المشاركة الروسية في أعمال القمة لا تدلل على محاولة للتواصل مع العالم وإثبات عدم قدرة الغرب على عزلها، وإنما تؤكد قراراً روسياً يقضي بتحجيم دور هذه المجموعة، وإثبات عقمها في التعبير عن إجماع دولي تتغنى به منذ نشأتها.
أمّا بالنسبة إلى الصين، فيظهر قرار عدم مشاركة الرئيس الصيني في قمة نيودلهي متبايناً من حيث الشكل عن قرار الرئيس الروسي. فإذا كان من غير الممكن القفز فوق التحليل، الذي يَعُدّ أن الخلاف الحدودي بين الصين والهند أحد أهم الأسباب التي تبرر غياب الرئيس الصيني عن القمة، فإن أسباباً أخرى تُظهر تأثيراً ثانوياً للخلاف الحدودي في القرار الصيني.
فاليقين الصيني بوجود محاولة غربية لإظهار قمة مجموعة العشرين على أنها ساحة للمنافسة الدولية، وإصرار الولايات المتحدة وحلفائها على فرض رؤيتهم لكيفية معالجة القضايا العالمية، ابتداءً من ملف الحرب الروسية الأوكرانية، مروراً بأزمة المناخ والإصرار الغربي على مضاعفة القدرة المتجددة ثلاث مرات بحلول عام 2030، وخفض انبعاثات الغازات بنسبة 60 % بحلول عام 2035، على نحو لا يتلاءم مخ خطط النمو الصيني، وصولاً إلى ملف مفاوضات إعادة هيكلة الديون؛ كلها عوامل تساعد على إظهار السلوك الصيني على أنه إشارة إلى رفض توجه المجموعة وإلى التأثير العميق للقرار الصيني في مجموعة العشرين.
لذلك، فإن القرارين الروسي والصيني بشأن عدم الحضور إلى نيودلهي لا يمكن تحليلهما من خلال ظروف كِلا البلدين فقط، وإنما يُفترض البناء على ما يمكن أن ينتج من هذا الغياب من مفاعيل يجب البناء عليها في الأعوام المقبلة. فالإجراء الروسي والصيني، والذي يهدف إلى تحجيم مجموعة العشرين، لا يمكن أن يُقرأ إلا من خلال ظروف قمة مجموعة بريكس الأخيرة، التي عُقدت في جنوب أفريقيا وما نتج منها.
ففي مقابل إصرار قادة الدول على الحضور في جنوب أفريقيا، وإعلان خطة لتوسيع مجموعة بريكس، ودعوة عدد من الدول إلى الانضمام إليها، بالإضافة إلى الإجماع على قرار التخلي عن الدولار في المعاملات التجارية البينية، والنجاح في تظهير بيان ختامي متماسك يدلل على توافق أعضاء المجموعة فيما يتعلق بقضايا السلم والأمن الدوليَّين، فإن مجموعة العشرين تظهر عاجزة عن تخطي انقسامات دولها، على نحو يجعل إمكان فقدانها مكانتها العالمية أمراً حتمياً.