قراءة في دوافع الاتفاق الإيراني السعودي

رحّبت مختلف الدول العربية والإسلامية وأطراف محور المقاومة بالاتفاق بين إيران والسعودية، بيننا عدّته أوساط العدو الإسرائيلي، حكومة ومعارضة مخيّباً للآمال.

  • قراءة في دوافع الاتفاق الإيراني السعودي
    قراءة في دوافع الاتفاق الإيراني السعودي

أعلنت إيران والسعودية استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، بوساطة ورعاية صينية، بعدما عقدت لقاءات سرية في بكين بين الأطراف الثلاثة منذ عدة شهور، وسيشمل الاتفاق إعادة فتح السفارات، في غضون شهرين، والتعاون الأمني. وعقّب مستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، على الاتفاق قائلاً: إنّ الاتفاق سيكون عقبة كبيرة أمام وجود الصهاينة في المنطقة ومشاركتهم وتدخلهم. 

رحبت مختلف الدول العربية والإسلامية وأطراف محور المقاومة بالاتفاق، بيننا عدّته أوساط العدو الإسرائيلي، حكومة ومعارضة مخيّباً للآمال، وسط تبادل للاتهامات والمزايدات بين الطرفين، اللذين حمّل كل منهما الآخر مسؤولية التقارب بين إيران والسعودية، وخشية العدو من انعكاسات الاتفاق على اتفاقيات أبراهام، والتطبيع مع السعودية، وشرعية مواجهة النووي الإيراني عسكرياً.

ومع سيل التحليلات التي صاحبت الإعلان الثلاثي، يبدو أن توقيع الاتفاق طرح تساؤلات أكثر مما طرح إجابات، فما هي دوافع البلدين المتخاصمين للإقدام على الاتفاق؟ وهل تم الاتفاق بإرادة سعودية بمنأى عن الإرادة الأميركية، أم بدعم منها؟ وهل سيصمد الاتفاق وستلتزم الأطراف بتنفيذه على الأرض؟ ومن هي الأطراف الخاسرة والرابحة؟ وما انعكاساته على اتفاقيات أبراهام والتطبيع والحرب في اليمن؟ وهل سيمنع عدواناً عسكرياً اسرائيلياً ضد إيران؟ وهل سيزيد من فرص توقيع اتفاق نووي أم سيقلصها؟ وهل يعكس الاتفاق تراجعاً للهيمنة الأميركية في المنطقة وتعزيزاً للنفوذ الصيني؟ وأسئلة أخرى عديدة...

بصرف النظر عن الإجابات التفصيلية عن التساؤلات المطروحة، فإن ما يجدر بحثه الدوافع الرئيسة لتوقيع الاتفاق الثلاثي. 

يعدّ الاتفاق نجاحاً مهماً للدبلوماسية الصينية ومؤشراً للعب دور صيني أكبر في المنطقة مستقبلاً، ومحاولة صينية للمسّ بالهيمنة الأميركية في ضوء التنافس المحتدم بين القوتين العالميتين، لا سيما في المجال الاقتصادي، كما أن الصين مهتمة بتعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية، لدوافع اقتصادية بشكل أساسي، كما تعدّ السعودية الصين شريكاً مهماً لديه استعداد أكبر للتعاون في المجالين العسكري والاقتصادي، وربما تبدي الصين استعداداً لدعم مشروع نووي سعودي مدني قد يتطور لاحقاً لأهداف عسكرية، بالإضافة إلى موافقة صينية على تقديم دعم عسكري، تتحفظ الولايات المتحدة على تقديمه لها.

تتشارك السعودية والصين وإيران في نقد الولايات المتحدة في سعيها للتدخل في سيادة الدول وقضاياها الداخلية تحت ذريعة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان.

من جهة أخرى، ترغب الصين في فتح آفاق للتعاون مع العالمين العربي والإسلامي عبر البوابتين السعودية والإيرانية، وترفع عنها الحرج تجاه تعاملها مع الأقلية الصينية المسلمة، وبالنظر إلى أن الصين أثبتت تقدُّماً في تطوير البنية التحتية الاقتصادية، في حين أن المملكة العربية السعودية تريد أن يكون لها تأثير ودور أكبر في المنطقة.

تفسير دوافع القرار السعودي لتوقيع الاتفاق مع إيران برعاية الصين، له عدد من المقاربات، أولها، يمكن أن نطلق عليه المقاربة العقلانية، والتي تفترض أن المملكة باتت مقتنعة بأن الإدارة الأميركية لن تهاجم إيران عسكرياً، وتتجه إلى توقيع اتفاق معها، على نحو سيؤدي إلى تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، كما أنها خلصت إلى أن مسار العلاقة والتطبيع مع العدو الإسرائيلي عالي الكلفة ومحدود الفائدة، في ضوء التقدير بأن الكيان يرفض تزويد الإدارة الأميركية- السعودية بأسلحة حديثة تخل التوازن العسكري معه، الأمر الذي يتعارض مع عقيدته العسكرية التي تبقيه متفوقاً على مجموع الدول العربية، والقوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط، والقوة النووية الوحيدة في المنطقة.

 كما وجدت المملكة أن قدرة الكيان على تسويق القيادة السعودية لدى الإدارة الأميركية، ورأب الصدع معها، متواضعة، ولم تحقق النتائج المرجوة، إلى جانب ضعف استقرار البيئة السياسية داخل الكيان، وسياسات حكومة العدو الفاشية.

تسعى المملكة في المرحلة المقبلة، في إطار المقاربة العقلانية، للاتفاق مع إيران على استراتيجية للخروج الآمن من اليمن، بما يراعي مصالح الأطراف كافة، ولتفاهم أكبر حول قضايا المنطقة، لا سيما الأزمات في لبنان وسوريا والعراق، كما تسعى المملكة لتوسيع العلاقات السياسية والاقتصادية إقليمياً ودولياً، على قاعدة الفصل بين الملفات، وهو ما عكسته سياسة التقارب مع تركيا، وقطر، وروسيا والصين، مع بقاء حلفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والغرب، وكذلك إبقاء الباب موارباً أمام تطبيع العلاقة مع الكيان، على نحو يعكس سياسة خارجية جديدة متوازنة بعكس السياسة الصفرية السابقة التي صنفت الدول والكيانات فريقين، إما مع أو ضد. 

في إطار المقاربة القائمة على صوغ سياسة سعودية متوازنة، فإنها تسعى لرفع مستوى دورها ومكانتها في المنطقة، بعد تراجعهما لمصلحة دول إقليمية أخرى، لا سيما الدورين التركي والإيراني، الأمر الذي دفع القيادة السعودية لتكون قوة إقليمية لها حضور أكثر قوة وتأثيراً في المنطقة.

المقاربة الثانية، ترتبط بالعدو الإسرائيلي، وهي أن المملكة تخشى أن يقدم العدو الإسرائيلي على شن عدوان عسكري على إيران، وربما لديها مؤشرات على ذلك، وتسعى من خلال الاتفاق للنأي بنفسها وتحييد أي رد فعل إيراني تجاهها، في حال اندلاع مواجهة إيرانية-إسرائيلية مستقبلاً، وقد يكون الاتفاق تم بإيعاز أميركي للسعودية لإحباط أي نية إسرائيلية للهجوم على إيران، كونها ستكون وحيدة في مواجهة إيران، على نحو قد يعقد مهمة العدو الهجومية.

المقاربة الثالثة، تتعلق باليمن، فالسعودية، لا تستطيع الاستمرار بالحرب في اليمن، وترى أنها استنزفتها، وقضمت من رصيدها ومكانتها، في ضوء رغبتها في تطوير اقتصادها وتنويع مصادر دخلها وإنتاجها، والاستفادة من المكانة الدينية لها، الأمر الذي يتطابق مع الرؤية الأميركية، التي تريد أن تضع الحرب في اليمن أوزارها، كي تتفرغ للتهديدين الروسي والصيني، وتسعى الإدارة الأميركية كي تستثمر المكانة الدينية للمملكة للتحريض على روسيا والصين بدوافع أيديولوجية تخدم الأهداف الأميركية، على غرار دور المملكة الديني في التحشيد ضد السوفيات إبان غزوها لأفغانستان في فترة الحرب الباردة والنظام ثنائي القطبية. 

في ضوء تراجع حدة الصراع في المنطقة، والاستنزاف والإرهاق والخسائر التي عانى منها جميع الأطراف، لا سيما السعودية وإيران، وعلى أثر الأزمة الاقتصادية العالمية التي خلفتها الحرب في أوكرانيا، وأزمة كورونا، والتحولات الجارية على صعيد بناء أقطاب دولية منافسة للولايات المتحدة، ورغبة الصين في تطوير دورها الإقليمي والعالمي، ورغبة الولايات المتحدة في التفرغ للتهديدات في البيئة الدولية وخفض التصعيد في المنطقة.

يحقق الاتفاق بين إيران والسعودية مصالح مختلف الأطراف، وينعكس سلباً على أطراف أخرى، فالصين، الفائز الأكبر، إذ ستحقق مكاسب في الدور والاقتصاد، على حساب هيمنة الولايات المتحدة، لكن الأخيرة مستفيدة من وقف الحرب في اليمن وترغب في اتفاق نووي مع إيران وتحثّ حليفها الإسرائيلي على عدم اللجوء إلى الخيار العسكري ضد إيران، برغم الأثر السلبي للاتفاق على مسار اتفاقيات أبراهام، وهيمنتها المطلقة على المنطقة، كذلك قد يخفف الاتفاق من حدة الأزمات في المنطقة العربية، وربما يرسم مساراً لمعالجة آثار الصراع الداخلي فيها، لكن الخاسر الأكبر من الاتفاق في حال تنفيذه هو العدو الإسرائيلي، وتحديداً رئيس حكومة العدو  بنيامين نتنياهو، الذي وضع على سلم أولوياته، الملف النووي الإيراني والتطبيع مع السعودية.