قراءة في انقلاب بوركينا فاسو
قوبل انقلاب تراوري في بوركينا فاسو بإدانات من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ومن الاتحاد الأفريقي الذي جدد للانقلاب الجديد المهلة التي حدَّدها للانقلاب السابق للعودة إلى النظام الديمقراطي.
في يوم الجمعة الماضي، أطاح النقيب إبراهيم تراوري (34 عاماً) قائده السابق المقدم بول هنري سانوغو داميبا من رئاسة بوركينا فاسو، ومن رئاسة الجمعية الوطنية للإنقاذ والإصلاح. يجيء هذا الانقلاب بعد نحو 8 أشهر من الانقلاب العسكري الذي أطاح في كانون الأول/يناير من هذا العام الرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري، والذي قامت به مجموعة عسكرية ضمت تراوري إلى جانب المقدم بول هنري الذي أُطيح أيضاً.
وبهذا الانقلاب، سجلت بوركينا فاسو رقماً قياسياً في الانقلابات العسكرية خلال العامين الماضيين، إذ بلغ عدد الانقلابات فيها 6 انقلابات خلال هذه الفترة القصيرة.
أعلن الانقلابيون الجدد أنَّ انقلابهم جاء لإنقاذ البلاد من حال التدهور الأمني والإداري والسياسي الذي تشهده، وأشاروا في مقابلات إعلامية مختلفة إلى أنَّ لبوركينا فاسو الحق السيادي في توسيع شراكاتها في المجالين الأمني والعسكري، الأمر الذي يشير إلى توجه استقلالي لدى الانقلابيين، ويؤشر إلى سياسة خارجية جديدة قد تتبعها السلطة الجديدة في مجال العلاقات الخارجية بصفة عامة، وتجاه فرنسا بشكل خاص، لا سيما بعد المقولة التي نسبت إلى قائد الانقلاب، والتي وصف فيها فرنسا بالدولة الاستعمارية، وبعد التظاهرات المؤيدة للانقلاب، التي حاصرت السفارة الفرنسية في العاصمة واغادوغو، وأضرمت الحريق في بعض أجزائها، وبعد رفع المتظاهرين علم روسيا الاتحادية في محيط السفارة الفرنسية.
من جانب آخر، وفي موقف ذي دلالة، طالبت عدة نقابات عمالية في بوركينا فاسو، الأربعاء، بسحب القوات الفرنسية من البلاد، بعد ثبوت تورطها في دعم الرئيس المخلوع بول هنري دامبيا، واستنكرت النقابات الاتفاقيات العسكرية والتعاون الاقتصادي مع فرنسا، مؤكدةً أن بوركينا فاسو يجب أن تكون حرةً في التعاون مع الدول التي تختارها، وشددت النقابات البوركينابية على أن الأمر لا يتعلق بالخروج من سيطرة إمبريالية معينة والذهاب تجاه أخرى، بل يتعلق بحق بوركينا فاسو في تنويع الشراكات واحترام السيادة الوطنية.
وفي تصريح لإذاعة فرنسا الدولية في الثالث من الشهر الجاري، أكَّد تراوري أنَّ المصلحة العامة تقتضي مراجعة بعض جوانب الشراكة القائمة بين بلاده وفرنسا، وتحسين بعضها الآخر، وقال إنَّ بلاده ترتبط بعقد عسكري مع روسيا، وتستخدم عتادها بكثرة.
في المقابل، رحبت مجموعة فاغنر الروسية بهذا الانقلاب، بحسب منشور نُسب إلى مؤسسها في وسائل التواصل الاجتماعي. وقد جاء فيه أن انقلاب تراوري ورفاقه كان ضرورياً ومن أجل مصلحة شعبهم، ووصفه المنشور بـ"الشجاع والابن البار" لبوركينا فاسو، مؤكداً استعداد المجموعة للعمل معه.
قوبل انقلاب تراوري بإدانة من الأمم المتحدة، ومن الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، ومن الاتحاد الأفريقي الذي جدد للانقلاب الجديد المهلة التي حدَّدها للانقلاب السابق للعودة إلى النظام الديموقراطي، في موعد لا يتجاوز تموز/يوليو 2024، كما دانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" الانقلاب.
إنَّ كثرة الانقلابات العسكرية التي يشهدها كثير من الدول الأفريقية تعبر عن حال عدم الاستقرار في تلك الدول، وتعبر في الوقت عينه عن عجز أنظمة هذه الدول عن مخاطبة القضايا الوطنية الملحة، وعلى رأسها قضية تحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي الذي يمكّن شعوب هذه الدول من امتلاك قرارها الوطني، ومن المحافظة على سيادتها وهويتها الوطنية واستثمار ثرواتها وتوظيفها لمصلحة وطنها في الحاضر والمستقبل، بعدما منح الغرب هذه الدول استقلالاً شكلياً، وظل يستأثر بخيراتها، ويمسك بقرارها، ويعمل جاهداً من أجل طمس هُويتها الثقافية وحرمان شعبها من التعبير عن هذه الهوية في اختياراته الوطنية واختيار حكامه.
إنَّ الموجة الجديدة للانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا ووسطها خلال العامين السابقين، والتي بلغت 6 انقلابات، تعبر عن رغبة ومزاج جديد يسعى للتغيير ويعبر عن خرائط تفكير سياسي جديد يستهدف البنية الكولونيالية الغربية، وهو ما يفسر المطالب بانسحاب فرنسا في مناطق نفوذها وسحب قواعدها العسكرية المنتشرة في هذه الدول.
وليس بعيداً من ذلك، تعكس التطورات المتسارعة في دول الساحل الأفريقي حال التنافس الروسي الغربي في هذه المنطقة، وتعكس أيضاً حال التقدم التي يحققها النفوذ الروسي على حساب النفوذ الفرنسي بشكل خاص، والنفوذ الغربي بشكل عام.
وتؤشر هذه التطوّرات كذلك إلى أنَّ بلداناً تنتمي إلى هذا الإقليم قد تطالها عدوى التغيير، كالنيجر وتوغو وبنين، حتى تشاد التي يحظى نظامها الجديد برئاسة الجنرال محمد دبي برعاية فرنسية خاصّة، فإنها تسعى لتمكين دبي من مفاصل السلطة وتعزيز قبضته العسكرية عليها.