في رحاب عُـمان
في رحاب عُمان تشعر أنك بين أهلك وأصدقائك، وأنّ العروبة ليست نظرية تقرؤها في الكتب وتضعها جانباً؛ بل هي واقع حيّ تعيشه مع إخوانك إرثاً ثقافياً مشتركاً، ولغة جزلة جميلة يصل شعرها شغاف القلب.
حين تقول في رحاب عُمان، فأنت تشعر أنك بالفعل في رحاب بلد رحب بجغرافيته وتاريخه، وتشعر برحابة صدر أهله الطيبين المعطائين والمؤدبين، وبرحابة سهوله وحنان جباله الحاضنة للسهل والبحر على حدّ سواء. حين تدخل عُمان تستقبلك رائحة البخور وتعلم أنك وطئت أرض بلد عرف تراثه وعشقه وحافظ عليه، ولم ينجرف وراء ما يصمّمه الآخرون له من طريقة عيش أو أسلوب تقييم لما ورثه عن الآباء والأجداد، بل أخذ من الحداثة ما يناسب ترسيخ وتعزيز الأبهى من قيمه الحضارية، وموروثه الشعبي الذي ما يزال شديد الاعتزاز والالتزام به.
وصلنا إلى عُمان تلبية لدعوة من هيئة الوثائق والمحفوظات، ولم نكن نعلم ماذا يندرج تحت هذا العنوان، ولكن وباعتبار وثيقة وطن في سورية قد نشأت من أجل تأريخ التاريخ الشفوي؛ فنحن مهتمون باستكشاف ما لدى الأشقاء والأصدقاء من علم وخبرة يمكن أن يختصرا علينا الطريق ويزيدا من سرعة إنتاجيتنا وكفاءتها.
استقبلنا في المطار الأخ الدكتور حمد محمد الضوياني، رئيس الهيئة، يرافقه السفير السوري في عُمان الدكتور بسام الخطيب. ومنذ بداية الحديث في قاعة الاستقبال في المطار، شعرت أنني أمام خبرة متراكمة ومعرفة وشغف بالتاريخ والإرث الحضاري وتوثيقه، لأكتشف في اليوم الأول من الزيارة مؤسسة رائدة بأقسام عديدة ومنهجية عمل واضحة ومتطوّرة لحفظ ذاكرة عُمان وتاريخها للأجيال القادمة.
تأسست هيئة الوثائق والمحفوظات في عُمان عام 2007 استجابة لمرسوم سلطاني أصدره جلالة السلطان قابوس رحمه الله، وتمّ اعتبارها هيئة تابعة لرئاسة الوزراء، مموّلة من قبل الحكومة العمانية، ومعنية بتوثيق ما يجب توثيقه من عمل وأرشفة أعمال كلّ الوزارات والمؤسسات في الدولة، ولذلك فلها تعاون مع فريق مختص من كلّ وزارة من وزارات الدولة، والتعاون مستمرّ في التدريب والتأهيل، وفي دراسة ومناقشة وترقيات كلّ وزارة، واتخاذ القرار بشأن ما يتمّ الاحتفاظ به لفترة معيّنة وما يتمّ إتلافه، وما يتمّ الاحتفاظ به دائماً بناءً على المصلحة الوطنية وعلاقة هذا الإرث بحاجة الأجيال القادمة إليه، وعلاقته بذاكرة عُمان وبالخطط الاستراتيجية المقبلة للدولة.
وفي الهيئة أقسام تثير الإعجاب وهي تعالج المحفوظات التي قد تكون تضرّرت بسبب سوء الظروف أو سوء الحفظ، فيتمّ إخضاع الوثيقة لفحص مجهريّ دقيق يكشف طبيعة وتوجّه ونسيج الورقة، وطبيعة الحبر المستخدم، ومن ثمّ يتمّ تحويلها إلى التعقيم في قسم خاص حديث، بحيث يتمّ القضاء على أيّ بكتيريا ما زالت تفتك بالوثيقة، ومن ثمّ تتمّ إحالتها إلى قسم الترميم، ومن ثمّ الحفظ والذي يضمن حياتها بعيداً عن أيّ تلف محتمل ولأيّ سبب كان.
كما يجاور الهيئة معرض دائم للوثائق يطّلع عليه الطلاب والباحثون والزوار، ولدى الهيئة مركز ضخم جداً لحفظ المعلومات كلّها إلكترونياً، ونسخ إلكترونية عن هذه المعلومات محفوظة في أمكنة متباعدة درءاً لفقد أيّ من هذه الكنوز في حريق أو إعصار أو أي شيء يمكن أن يتعرّض له أحد هذه المراكز، فهناك نسخ أخرى في مراكز متباعدة تشرف عليها الهيئة وتزوّدها بآخر إنتاجاتها، كما تصدر الهيئة العديد من الكتب عن تاريخ عُمان الماضي والحاضر، ويدرّس إنتاجها في المدارس والجامعات، وهناك طلبة الجامعة وطلبة الماجستير يتخصّصون في علوم الهيئة ويتأهّلون للعمل في أقسامها المختلفة.
ومن الأقسام المهمّة في الهيئة قسم التأريخ الشفوي، الذي يعتمد في عمله على أساتذة محاورين مختصين بهذا العلم، مع استديو ثابت ومجهّز بأحدث التجهيزات في العاصمة مسقط، يرد إليه الراغبون بتسجيل روايتهم عن حدث أو خبرة أو رؤية لهم في الأحداث، واستديو يتحرّك مع كامل كاميراته وتجهيزاته، يتحرّك إلى أيّ منطقة في عُمان لتسجيل رواية مسنّ ذي خبرة، أو سيرة أيّ شخصية جديرة بالحفظ، لتتعلّم منها الأجيال القادمة. وبعد أن اطّلع شعب عُمان على عمل هذه الهيئة التي بنت لنفسها مصداقية لدى الشعب العُماني، أخذ العمانيون يلجؤون إليها لترقيم وثائقهم الخاصة والاحتفاظ بها لدى الهيئة بشروط صحيّة تحفظ لهم وثائقهم المهمة، سواء أكانت فكرية أم مالية أم عائلية.
ويتكامل عمل الهيئة مع عمل وزارة التراث والسياحة التي تُعنى بتاريخ عُمان العريق والمديد، والجغرافيا التي وصل إليها البحارة العمانيون، والمناطق التي حكمتها عمان في الماضي، وكانت تابعة لها. وترى الوزارة أنّ عمل التراث والسياحة متكاملان، ويغذّي كلّ منهما الآخر. كما يتكامل عمل الهيئة والوزارة مع عمل متحف وطني يشكّل موطناً للإرث العماني الغني، من سفن وحلي فضّية ومصنوعات عُمانية شهد لها التاريخ بأهميتها للأجيال السابقة، وحرصت الأجيال الحالية على محاكاتها والاستفادة من الأفكار والقيم الملحقة بها.
وفي جلسة جميلة مع الأدباء والمفكرين العُمانيين، وعلى رأسهم الشيخ الصديق سعيد الصقلاوي، رئيس اتحاد الكتّاب العمانيين، وعضو مجلس الدولة، تطرب الآذان لأن الشعراء يقرؤون الشعر، ولأنّ الشعر ما زال حاضراً في كلّ أمسية وجلسة أصدقاء ودّية، فكيف إذا كان الشعر عن دمشق وعن سورية، وعن صمود سورية، وعن العروبة التي تمثّل أجمل وأهمّ قدر للعرب جميعاً. تشعر وأنت تتجاذب أطراف الحديث مع المفكرين والأدباء العمانيين أنك في بيت العروبة الصافي ذي الرؤية الواضحة، وأنّ العروبة هي الحلّ للعرب جميعاً، وأن التنسيق بين العرب في المجالات كافة هو الطريق الأقصر لهم جميعاً ليربحوا معاركهم الداخلية والخارجية؛ إذ لا يمكن لأيّ بلد عربي أن يشكّل قوّة إقليمية وازنة في وجه التحديات التي تواجه العرب جميعاً اليوم. ولأنّ العرب يتشاطرون اللغة والتاريخ والجغرافيا والعمق الحضاري، فإن التنسيق والتكامل بينهم سيخدمان مصالحهم الوطنية والعربية بشكل غير مسبوق.
أمّا المسؤولون العمانيون فيتّصف اللقاء معهم دائماً بأنهم يُخجلون تواضعك حتى وإن كانوا أعلى مرتبة وخبرة ولقباً؛ فميزتهم الأساسية هي الترحيب والابتسامة والكياسة والتواضع والعمق في الحديث والدقة في توصيف الأشياء والمحبة الدائمة لسورية وشعبها وصمودها، والتي عبّر عنها الجميع في كلّ مناسبة ولقاء، حتى إنّ الإنسان ليشعر بالتقصير في العلاقة مع شعب محبّ جداً، ومستعدّ أن يرتقي بعلاقاتنا إلى أبعد مما هي عليه بكثير.
في رحاب عُمان تشعر أنك بين أهلك وأصدقائك، وأنّ العروبة ليست نظرية تقرؤها في الكتب وتضعها جانباً، بل هي واقع حيّ تعيشه مع إخوانك إرثاً ثقافياً مشتركاً، ولغة جزلة جميلة يصل شعرها شغاف القلب، ويغذّي الروح، وتاريخاً مشتركاً تتآلف فيه. في رحاب عمان تجد كلّ المذاهب والأديان وهي تُمارَس بسلام، ويعبدون الله الواحد الأحد كلّ على شاكلته، من دون أن يتلقّى أيّ منهم نظرة شزر نتيجة الاختلاف، لأنّ الاختلاف في عُمان متجذّر في طبيعة الحياة وأنماط الحياة، ويلقى الاحترام والترحيب من قبل الجميع.
في رحاب عُمان تشعر بأنّ هناك أبحراً من القيم المشتركة التي لو تمّ استثمارها بين البلدان العربية لعادت بالخير والفائدة والقوّة على الجميع، ولكان الجميع رابحين من مشتركات ما زالت حتى اليوم بانتظار من يقدّر أهميتها حقّ قدرها، ويبني عليها ويستثمرها لما فيه مصلحة الجميع من دون استثناء.