فوائد الاستعمار!
جرائم الاحتلال البريطاني في فلسطين لا تُحصى ولا تُعد. وقد توِّجت بإنشاء "دولة" الاحتلال الصهيوني يوم خرجت جيوش الإمبراطورية من فلسطين في 15 أيّار/مايو 1948.
لا نعرف الكثير عن مناهج التعليم في مدارس الكيان الصهيوني وجامعاته. وبالقليل الذي نعرفه، تكوَّنت لدينا معلومات عن تلقين أولادهم وبناتهم تربيتهم العنصريّة الاستعلائية المحتقرة للشعوب والأمم.
ما نعرفه عنهم فيه قُصور كثير. لذلك، نطالب بدراسات متخصّصة متابعة بدقّة للمناهج في مدارسهم وجامعاتهم، وفي حضاناتهم أيضاً التي تتلقف أطفالهم وهم بالكاد يتكلمون، فيدخلون الحياة وقد بدأ تكوينهم المعادي "للأغيار"، وفي مقدمتهم العرب الفلسطينيون خاصة، وكل عربي عامة.
إذا كنّا لا نعرف الكثير عن تعليم أطفال اليهود، فهل نعرف، ولو القليل، عن تعليم أبناء "الأمم" التي استعمرتنا ونهبت خيرات بلادنا وقسمتها وما زالت تعبث بها؟ ماذا نعرف عن تعليم أبناء وبنات دولتي "سايكس – بيكو"، اللتين مزقتا بلاد الشام وتقاسمتاها، ونهبتا خيراتها، وزرعتا الكيان الصهيوني في قلبها؛ قلب بلاد العرب، لتحرما أمة العرب من التواصل، وتضمنا البقاء طويلاً في هذه الأرض لمواصلة نهبها وإضعافها؟
مما عرفناه عن ممارسات بريطانيا "العظمى" في فلسطين، أنَّها كانت تدمّر بيوت الثوّار الفلسطينيين عقاباً لهم ولأسرهم التي أنجبتهم، وكي تدفع ذويهم إلى التنصّل منهم والنفور من ممارساتهم المقاوِمة للانتداب البريطاني الاستعماري.
وكان جنودها ينفذون عمليات إعدام الثوّار ميدانياً، لنشر الخوف في قلوب من يسلكون طريق الثورة، وبين المواطنين الفلسطينيين في مدنهم وقراهم، وهو ما يواصل الكيان الصهيوني فعله ويزيد عليه.
جرائم الاحتلال البريطاني في فلسطين لا تُحصى ولا تُعد. وقد توِّجت بإنشاء "دولة" الاحتلال الصهيوني يوم خرجت جيوش الإمبراطورية من فلسطين في 15 أيّار/مايو 1948، وهل هناك جريمة أكثر شناعة من تهجير الفلسطينيين من أرضهم وتسليمها للغزاة الصهاينة؟
لقد نفّذت بريطانيا جريمتها العظمى بتسليم هربرت صاموئيل الصهيوني كل شيء، ليكون حاكماً عسكرياً على فلسطين طيلة 5 أعوام، فأفقر الفلاح الفلسطيني، وصادر الأرض، ودمّر الزراعة، ونكّل بالوطنيين الفلسطينيين، وكان كل ما جرى من جرائم في زمنه من أفضال الاستعمار البريطاني؛ راعي المشروع الصهيوني!
أمّا فرنسا التي استعمرت لبنان وسوريا وزرعت الفتن فيهما، فلم تخرج إلا بالثورات المتلاحقة وبتقديم الشهداء... إنَّ مناسبة استذكار جرائم الاستعمار تأتي بعد توجيه سؤال إلى طلاب الصف العاشر في مدارس فرنسا، وهو ليس سؤالاً، لأنَّ السؤال يحتمل إجابات متعددة ومختلفة الفهم والاجتهاد.
الموضوع محدد بكلمتين: فوائد الاستعمار. وعلى الطالب والطالبة أن يطنبا في تعداد فوائد الاستعمار ونعمته على الشعوب، ويمكن مطالبة هذه الشعوب بدفع تعويضات للاستعمار على ما قدمه من تنوير وتعليم وتمدين...
هذا الامتحان وُجه إلى طلاب الصف العاشر وطالباته!
أجابت طالبة فرنسية في الصف العاشر عن الموضوع المحدد (فوائد الاستعارة) بحسم ومن بُعد: لا فوائد للاستعمار، بل كل وجوده مضار وعدوان على البشر ونهب لخيرات الشعوب...
البنت التي أجابت عن هذا السؤال الذي وجّه عبر الإنترنت إلى طلاب وطالبات يدرسون عن بعد، باهرة الذكاء. والدها أستاذ فرنسي ينتمي إلى حزب ميلينشون. أمّا أمها ففلسطينية، وهي فنانة معروفة ومتعلمة ومثقفة وابنة رجل منتمٍ إلى قضيته الفلسطينية وتقدّمي واسع الثقافة.
البنت الذكيّة جداً أكبر من عمرها. وقد تمّ ترفيعها مرتين إلى صفوف متقدمة، وعلاماتها كاملة دائماً. ولأنها ابنة سيدة فلسطينية، وعائلة أمها تعيش في رام الله، فهي تزور وطن أمها، وتعيش معاناة الحواجز، وعمليات التفتيش، والجنازات اليومية.
وكلّما كبرت شاهدت معاناة أهل أمها، وسمعت من جدها عن فصول معاناة شعب فلسطين من احتلال الاستعمار البريطاني الذي تسبب بنكبة عرب فلسطين، وتلقنت دروساً تطبيقية من جرافات المُحتلين وهي تدمر بيوت الفلسطينيين، وسطو المستوطنين بحماية "جيش" الاحتلال على أرض الفلسطينيين، ووضعهم عليها "كرافانات" تتحوّل إلى بيوت في مستوطنات تلتهم أرض الفلسطينيين وحقولهم. كلّ هذا "بفضل" رعاية "غرب الاستعمار" ودعمه وتسليحه وتمويله، وبفعل "فوائده" التي ما زالت تتجلّى في فلسطين!
رؤساء فرنسا بكلِّ ألوانهم وأحزابهم يرفضون حتى الآن الاعتذار إلى الجزائر عن نهبها طيلة 130 عاماً من الاستعمار، ويحتفظون بجماجم الثوّار الجزائريين الذين أعدمتهم عقاباً لهم على المطالبة بالحريّة والاستقلال، فـ"فوائد الاستعمار" لا تشمل الحريّة والاستقلال وامتلاك الثروات الوطنية، بل إن فرنسا اعتبرت الجزائر من "أراضيها" وممتلكاتها الفرنسية في أفريقيا!
المعلمة الفرنسية منحت تلميذتها المتفوقة دائماً والمتميّزة علامة صفر. وعندما استفسرت منها من بُعد عن السبب، ردّت عليها: لقد خرجتِ عن جوهر الموضوع! وجوهر الموضوع: فوائد الاستعمار، ويجب أن تُعددي فوائد الاستعمار!
ولما كانت الفتاة ذكية جداً ومثقفة وعارفة، فمن معلوماتها: زوّدت فرنسا المُستعِمرة الكيان الصهيوني بمفاعل نووي زرع في ديمونا، وأنتج منذ أن زُرع عام 1956 حتى يومنا أكثر من 200 رأس نووي قادر على تدمير الكثير من عواصم الوطن العربي ومدنه وقتل ملايين العرب، وزوّدته أيضاً بطائرات "الميراج" و"رافال"، وبزوارق حربية سريعة هربت من ميناء شيربورغ الفرنسي بالتواطؤ.
ولا ننسى أن بريطانيا وفرنسا أشركتا معهما "دولة" الكيان الصهيوني في الحرب العدوانية على مصر الناصرية، عقاباً لها على تأميم قناة السويس، وانتهاج سياسة استقلالية، ودعم ثورة الجزائر، والتسلح من الدول الاشتراكية، والتمويل من الاتحاد السوفياتي لبناء السدّ العالي ومن دون شروط.
إنّ من فوائد الاستعمار عدم الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على 22% من أرض فلسطين، وهذا أقل بكثير مما قسمته دول الأمم المتحدة في قرار التقسيم، ودول الاستعمار "المفيد" تطالب الفلسطينيين بضبط النفس عند كل مذبحة يقترفها الاحتلال، وإدانة "الإرهاب"، يعني المقاومة، وتقدم مساعدات تخديرية تافهة "للسلطة"، وتفتح مكاتب للفلسطينيين، وليس سفارات.
لقد آن الأوان، ليس الآن، ولكن منذ عقود، حتى تقلع القيادات الفلسطينية عن الرهان على اعتراف حقيقي من دول الاستعمار بدولة فلسطينية، متناسين خيراته لكيان الاحتلال الصهيوني الذي تتجلّى يومياً فوائده الإجرامية على أرض فلسطين، والتنكيل بشعب فلسطين، ويعدم جيشه ومستوطنوه المجرمون الفلسطينيين علناً وميدانياً، ودول الاستعمار "المفيد" داعمته لا تدينه إدانات واضحة رادعة، ولا تحجب عنه السلاح والمال والدعم السياسي والدبلوماسي، ولن تفعل إلا إذا بدأت تدفع الثمن خسائر توجعها عميقاً.
المسكنة في العلاقة مع دول "الاستعمار المفيد" العنصري غير مجدية. هذا ما عرفه شعبنا منذ أن شهد جرائم بريطانيا وبدايات مشروعها الصهيوني، وجرائم فرنسا التي لا تحصى. كلّ تلك الجرائم ما زالت تتجلى في التربية والتعليم الذي يُلقّن لأطفالهم منذ بداية نطقهم لغاتهم الأم التي تبرر احتلال بلاد شعوب بعيدة عن بلادهم آلاف الكيلومترات، ونهب ثرواتها، وزرع كيان استعماري استيطاني في قلبها؛ قلب الوطن العربي الكبير فلسطين.