التعددية الثقافية مشروع استعماري
عانى الغرب في مرحلة ما بعد الاستعمار أزمة واضحة في ما يتعلق بالتعددية الثقافية. وقد تجلت هذه الأزمة في أكثر من مناسبة.
التعددية الثقافية وقبول الآخر قضية أخرى تحوز اهتماماً كبيراً من المنظمات غير الحكومية، وتكاد تتحول إلى وسم تستعمله الرأسمالية لخوض حروبها أو تقديم مكافآتها. يُعرف التعدد الثقافي (Multiculturalism) بأنه الوضع الذي تحصل فيه كل الثقافات والأعراق في مجتمع معين على حقوق وفرص متساوية، ولا تُهمل أو تعتبر غير مهمة، لكن حدود هذا التعريف غير ثابتة، بل تصبح "أكثر ضبابية عندما نحاول فصلها عن مفاهيم مثل الليبرالية والعالمية".
عانى الغرب في مرحلة ما بعد الاستعمار أزمة واضحة في ما يتعلق بالتعددية الثقافية. تجلَّت هذه الأزمة في أكثر من مناسبة، لعل أشهرها الصدامات التي وقعت في فرنسا بين الشرطة وسكان ضواحي باريس من مهاجرين أفارقة ومسلمين؛ هذه الضواحي التي تحولت إلى غيتوهات يصل معدل البطالة فيها إلى 20% (ضعف المعدل المحلي).
الأزمة نفسها ظهرت في ألمانيا تجاه المهاجرين الأتراك (نحو 3 مليون تركي)، وهو ما دفع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل إلى الاعتراف عام 2010 بأنّ التعددية الثقافية فشلت في ألمانيا. وبحسب راندل هانسن، فإن أزمة التنوع الثقافي ظهرت في الغرب لأسباب عدة، أهمها:
· وصول العمالة المهاجرة والمهاجرين من المستعمرات.
· وصول أفراد عائلات هؤلاء المهاجرين.
· اللاجئون الذين تدفقوا في الثمانينيات، وخصوصاً بعد عام 1989.
· وأضيف من طرفي سبباً رابعاً يرتبط بالأزمة الأخلاقية التي تعيشها المجتمعات الأوروبية، والمرتبطة بأحداث تاريخية متعلقة بأوروبا وحدها، مثل معاداة السامية والهولوكوست وأزمة الغجر، ومحاولة تعميم هذه الأزمات على بقية العالم للتخلص من عواقبها الأخلاقية التي تمس جوهر المبادئ الليبرالية.
نجمت الأزمة عن عدم تقبل المهاجرين للقيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الغرب، والتي قامت الدول الغربية بمحاولة فرضها عليهم. لقد حاولت الليبرالية إدخال فهمها الخاص إلى مفهوم التعددية الثقافية من خلال ثلاثة مفاهيم:
1- التسامح.
2- حقوق الأفراد بصرف النظر عن العرق والدين والجنس والتوجه الجنسي.
3- قبول التنوع "تمجيد التنوع exaltation of diversity"، بصرف النظر عن العرق والدين والجنس والتوجه الجنسي.
المشكلة أنَّ الليبرالية غير مناسبة للقيام بدور الوسيط في هذه الأزمة، لأن الليبرالية ذاتها هي تعبير عن الثقافة الغربية، وقبول الآخر يعني قبول أشكال اجتماعية وسياسية واقتصادية ترفض المفاهيم الليبرالية الغربية أو تتجاوزها، وهو أمر لا تقبله الديمقراطيات الليبرالية الغربية، كما ظهر في تصريحات المسؤولين الغربيين التي أوردتها آنفاً.
التعددية الثقافية بالنسبة إلى الديمقراطية الليبرالية تتمثل بدمج المهاجرين في المجتمعات الغربية اقتصادياً وسياسياً، وبالقوة أحياناً، وبتحول هؤلاء المهاجرين إلى مواطنين غربيين ثقافياً، مع إبقاء هامش بسيط يتعلق ببعض العادات الاجتماعية التي تتضمن طقوس الزواج وتفاصيل المطبخ وإلى حد ما طريقة اللباس.
في العالم غير الرأسمالي، يتم استيراد مفهوم تعدد الثقافات من التجربة الغربية وإسقاطه قسراً على المجتمعات الأخرى. ما يهمنا هنا هو المجتمعات العربية. هذه المجتمعات راسخة، ولم تطرأ عليها أي تغيرات مهمة، فموجات اللاجئين الفلسطينيين (1948 و1967) والعراقيين والسوريين شكلت ضغطاً على اقتصاديات بعض الدول، كالأردن ولبنان وسوريا، إلا أن اللاجئين لم يشكلوا تحدياً حضارياً أو ثقافياً لأصحاب البلاد، لكونهم يتحدثون اللغة نفسها، ويمتلكون العادات والتقاليد نفسها، وأغلبهم يعتقدون بانتمائهم إلى أمة واحدة، هي الأمة العربية.
أمّا التنوع الإثني (الكردي/ الشركسي/ الأرمني/الأمازيغي) والتنوع الديني (الإسلام/ المسيحية) والطائفي (سنّة/شيعة/ دروز)، فهو جزء أصيل ومتجذر في البنية الاجتماعية للمنطقة. يرتبط التنوع الإثني بالموقع الجغرافي الّذي جعل هذه المنطقة معبراً للهجرات الناجمة عن الحروب والكوارث الطبيعية، كما تداخل الكثير من الثقافات عن طريق الاحتلال (الروماني، اليوناني) أو الهجرات الطبيعية للسكان من الدول المحيطة.
وقد اندمجت هذه الثقافات ضمن ثقافة موحدة لا تخلو من التمايز، لكنها تخلو إلى حد كبير من المواجهات الدموية على قاعدة الاختلافات الثقافية. لذلك، لم يجد مفهوم التعددية الثقافية مكاناً له في المجتمعات العربية لانتفاء ضرورته، وكان بعض المطالبات بتعديل القوانين للسماح للأقليات بالتعبير عن هوياتها ذا طابع ثقافي يتعلق بشكل أساسي باللغة.
استطاعت القوى الرأسمالية وحلفاؤها خلق صراعات "غير أصيلة" في منطقتنا، قائمة على خلاف ثقافي "مفترض" داخل المجتمعات القائمة. تتميز جميع الصراعات التي تجتاح منطقتنا بميزات مشتركة:
1- محاولة تغييب الصراع الإقليمي مع "إسرائيل" التي تحتل فلسطين وأجزاء من الجولان السوري عسكرياً واستيطانياً.
2- غياب الصراع مع الرأسمالية العالمية التي تستنزف ثروات الشعوب، وتعمل على إعاقة تطورها وتقدمها في جميع المجالات، وتستولي على السيادة الوطنية للدول.
هكذا، نستنتج أن جميع هذه الصراعات مصطنعة. يبدو جلياً دور الأيدي الخارجية في صناعتها، وأنها جميعاً قابلة للحل (من وجهة نظر المستعمر) من خلال مقولات مثل القبول بالآخر والتنوع، أي جعل هذه المقولات حالة ثابتة في البنية الاجتماعية الاقتصادية، وترجمتها سياسياً من خلال دساتير تراعي الآخر الطائفي والإثني، وتسعى إلى زيادة تشظي المجتمعات وتعمق الخلافات بين مكوناتها. بعبارة أخرى، تتحول التعددية الثقافية إلى قنبلة موقوتة داخل كل مجتمع يمكن تفجيرها في أي لحظة وبحسب إرادة المستعمر.