"فتية التلال" وجهٌ قبيحٌ آخر للصهيونية.. كيف نَفهمُ سلوكهم؟
إذا كان الإرهاب اليهودي، قبل قيام "دولة إسرائيل"، قد استُخدم كأداة لإطاحة الانتداب البريطاني وإقامة دولة قومية يهودية في "أرض إسرائيل"، فإنّ الإرهاب اليوم لا يستخدم فقط كأداة لقتل الفلسطينيين وإيذائهم، بل ولإقامة "دولة الشريعة اليهودية".
أعادت قضية إفراج محاكم الاحتلال عن المستوطن المتطرف إليشع يارد، قاتل الشهيد الشاب قصي معطان في قرية بُرقة، شرق مدينة رام الله، إلى الواجهة مرة أخرى قضية عصابة "فتية التلال" الاستيطانية، وأفعالها الإرهابية بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم.
لم يكن هذا الإفراج مستغرباً في ظل عدم التعويل على قضاء الاحتلال بصورة عامة، والدعم والتمجيد اللذين حصل عليهما القاتل من أركان هامة في حكومة الاحتلال وبرلمانه، بل ومن غالبية المجتمع الإسرائيلي. إن غض الطرف والتساهل في التعامل مع إرهاب "فتية التلال" من جانب الأمن الإسرائيلي والنظام ككل، يساعدان في تصاعد العمليات الإرهابية التي يُنفذها هؤلاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تتكوّن عصابة "فتية التلال" في غالبيتها من فتية يهود متطرفين يعيشون في بؤرٍ استيطانية معزولة في الضفة الغربية، من منطلقات أيديولوجية يمينية راديكالية، يميزهم شعرهم العريض الطويل، وإطلاق اللحى، وارتداء القبعات الكبيرة المحبوكة، والعمل في الأرض ورعي الأغنام. يعدّ كثير منهم أنفسهم رواد وخلفاء لليهود الذين عاشوا في مملكة "إسرائيل" في فترة الكتاب المقدس، ويرون أن الاستيطان في "أرض إسرائيل" هو الأساس المركزي لتعجيل مشيئة الله بتحقيق الفداء وفق التوراة.
وفقاً لتقديرات عام 2021 يبلغ عددهم نحو 400 فتى منتشرين في نحو 50 بؤرة استيطانية، و30 مزرعة في جميع أنحاء الضفة الغربية. أما نسبة الاسم إلى "التلال" فتعود إلى ما أشار إليه أرئيل شارون في إعلانه في مركز حزب الليكود في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1998، حيث قال: "اركض وامسك التلال، امسك تلة هنا وتلة هناك..... كل شيء نَحُوزُه سيكون في أيدينا، وكل ما لا نَحوزُه سيكون في أيديهم"، أي العرب، فاستجاب العديد من المستوطنين الشباب لإعلان شارون وأقاموا بؤراً استيطانية على التلال باستخدام أسلوب فرض الحقائق على الأرض بمنطق القوة. يشير مصطلح "فتية التلال" إلى العديد من مجموعات الشباب، بعضهم من المراهقين، ولكن معظمهم في العشرينيات من العمر أو أكبر، ووفقاً لممثل وزارة المعارف الإسرائيلية فإن "فتيان التلال" بمعظمهم هم من الشباب المراهقين "المعرضين للخطر" إذ يعانون أزماتٍ شخصية عائلية، وتمثل الأيديولوجيا بالنسبة إليهم غطاءً ومحفزاً للتنفيس عن غضبهم، وقد أطلقت عليهم دراسة صدرت عام 2018 بـ "الفردانين" الذين تدحرجوا إلى التلال لأسباب شخصية.
يأتي معظم الإرهاب اليهودي اليوم من تلال الضفة الغربية تقوده مجموعات "فتية التلال"، وهم الذين يقفون خلف عمليات "دفع الثمن" في البلدات والمدن الفلسطينية، بما في ذلك اعتداءات وسرقة وإشعال نار في مبانٍ ومركباتٍ وأشجار فلسطينية، كما أنهم من يقف خلف إحراق منزل عائلة دوابشة واستشهاد 3 من أفراد الأسرة، وإحراق الشهيد الطفل محمد أبو خضير في القدس، وإحراق كنيسة "الخبز والسمك"، وغيرها الكثير مما لا يتسع المقام لسرده.
والواقع أنه لا جديد في الإرهاب اليهودي، فقد كان حاضراً منذ ما قبل قيام "دولة إسرائيل"، عندما قامت منظمات مثل "ليحي" و "إيتسل" الصهيونيتين بزرع عبواتٍ ناسفة في الأسواق وإلقاء قنابل يدوية في حافلات وقتل عرب وبريطانيين ونساء وأطفال، ولا يزال أكبر هجوم إرهابي في التاريخ المعاصر يُسجَّل باسم منظمة "الإرجون" الصهيونية، وهو تفجير فندق الملك داوود عام 1946، الذي راح ضحيته قرابة تسعين شخصاً. لكن الجديد هو الدوافع التي تقف خلف هذه الهجمات، إذ حارب الإرهاب اليهودي في الماضي من أجل ما سمّاه "حق الشعب اليهودي في إقامة دولة ذات سيادة في أرض إسرائيل"، أمّا اليوم وقد أقيمت هذه "الدولة"، فإن هؤلاء يمارسون الإرهاب لأسبابٍ ثلاثة رئيسية، أولها الانتقام لمقتل يهود، وثانيها إحباط أي عملية سياسية تشمل الانسحاب الإسرائيلي من أراضٍ فلسطينية؛ وثالثها، وهو الأهم، التعجيل في النهاية، أي تقريب الفداء، الذي يتضمن تحوّل "دولة إسرائيل" من علمانية ليبرالية إلى دولة "الهالاخا" الشريعة الملكية.
هذه الظاهرة الخطيرة لا تقف عند جرائم القتل البشعة، بل تحوي شيئاً من البنية التحتية المفاهيمية التي ترمي في هدفها النهائي إلى إنهاء "دولة إسرائيل" بصورتها الحالية وإقامة دولة الشريعة مكانها.
ولعلّنا في هذه العُجالة نحاول فحص المفاهيم الدينية والتوراتية "اللاهوتية" التي تقف وراء هذه الظاهرة، ومفهوم الانتقام الكهاني، ومدى تأثير حاخامات الأصولية الأرثوذكسية المتطرفة في تصورات "فتية التلال" وأفعالها!. كان للحاخامات حتى عام 2014، مثل الحاخام يتسحاق غينزبرغ الذي تناول كتاب "توراة الملك"، وشرح قوانين قتل غير اليهود الأبرياء، تأثير قوي في ناشطي التلال، وكان منهم من فسّر كلماته على أنها دعم لما يعرف بـ "المبادرات الخاصة"، ففي وقت لاحق ظهر جيلٌ جديد لم يعد بحاجة إلى توجيهات الحاخامات لقيادة الطريق في "النضال" من أجل "أرض إسرائيل"، وهو اتجاهٌ مستمر إلى يومنا هذا.
طور جيلٌ من الفتية، الذين لا تتجاوز أعمارهم أحياناً 14 عاماً، سلوكاً يسمح بالانفصال عن أي إطار رسمي، مدفوعين بالاحتقار لأي شخص يمثل المؤسسة الرسمية، بل وبعض حاخامات اليمين "المعتدل"، مثل الحاخام ليفانون وإليعازر ميلاميد، ما قادهم إلى تبني أفكار فوضوية في ما يتعلق بـ"الدولة" والسلطات المختصة. ولا شك في أن بعض التحولات الاجتماعية التي مر بها الجمهور الديني الصهيوني هي التي تسببت في هذا التغيير، أولها هو الحاجة السياسية، خاصةً بعد أربع جولات انتخابية في أقل من ثلاث سنوات، والتي دفعت نتنياهو، وهو الذي استبعد سابقاً إمكانية التعاون مع الفكر الكهاني، إلى بدء اتصالات سياسية لإدخال اليمين القومي اليهودي إلى الكنيست، ثم لاحقاً في الحكومة كما نشهد اليوم.
أما التحوّل الآخر فهو تأثير الشبكات الاجتماعية في القادة السياسيين، ودائماً ما تكون القاعدة أكثر تطرفاً إذ تزيد الشبكات الاجتماعية من تطرف الخطاب بعيداً عن تعقيد الواقع وقيوده، وهذا بدوره سمح ببروز وجهات نظر شعبوية وعنصرية اضطرت القادة السياسيين إلى الاصطفاف مع الخطاب المشحون، الذي يدفع أولئك الذين يغردون خارج سربه أثماناً في أول لقاء لهم مع الجماهير في صناديق الاقتراع.
التحوّل الثالث والأخير هو تغيّر القيادة الصهيونية الدينية، التي كانت قبل عقد ونصف تضم شخصياتٍ لها حضورها وتمثيلها في "اليمين المعتدل". ومع أن تمثيلهم اليوم ينحصر في أحزاب "المعسكر الوطني" أو "يش عتيد"، لكن الجمهور الصهيوني الديني يواجه صعوبةً في تقبّل تعليمات من حاخامات ينتمون إلى أحزاب غير دينية أو مدرجة ضمن الكتل اليسارية.
لذلك، إذا كنا سمعنا في ما مضى من قادة اليمين، تصريحاتٍ ما، ولو خافتة ضد الجريمة القومية، فإننا على الأرجح لن نسمعها اليوم، فقادة الصهيونية الدينية يرفضون قبول احتمال أن يكون بعضهم إرهابياً، بل يؤمنون بأنه "لا يوجد شيء اسمه إرهابٌ يهودي". كيف لا والجمهور الذي يعدّ نفسه ذا قيمة غير عادية، يرى أن استيطانه للضفة الغربية عملٌ بطولي له أهمية تاريخية كبيرة، فلا يمكن أن يعترف بأنه في هوسه بالأرض والسيطرة، وفي السيادة والعنصرية التي تبناها في الضفة الغربية، يمارس إرهاباً.
إن من يتابع سلوك "فتية التلال" والأصوات القادمة من هناك سيدرك حجم ازدرائهم وتمردهم على المجتمع الذي خرجوا منه، فهم يبحثون عن الحقيقة من دون "تنازلات أو مساومة رخيصة". ظاهرة التمرد على سلطة الوالدين والمجتمع، والمطالبة بالحقيقة وعدم الرغبة في التسوية، والتصور بأنهم الخلفاء الحقيقيون للصهيونية الدينية والحركة الصهيونية بشكل عام، يعني أن أجزاء من اليهودية تنفصل عن الثقافة العامة السائدة، التي يعدّونها مرتدة وخالية من القيم، بل ويقنعون أنفسهم أنهم "اليهودية الحقيقية".
لذلك، فإن جذور "فتية التلال" نمت في البحث الروحي الشخصي الذي يسعى للتعبير عن "الإبداع والتفرد والعلاقة الحميمة والخاصة مع الله"، ولم يعد تحقيق الذات في الصهيونية الدينية يُنظر إليه على أنه مشروط بالارتباط بالجماعة القومية، بل على العكس، يقوم على "المبادرة الشخصية" للتعبير عن الذات. إن الأصالة، وفق هؤلاء، تتطلب الإبداع والتمرد على القواعد التقليدية، إنهم يحتقرون والديهم، وينكرون سلطة الحاخامات، وبالطبع ينتهكون قوانين "الدولة" التي يعدّونها ضعيفة الشخصية ومساوِمة. لكنهم، في المقابل، ليسوا متمردين على التعليم الذي تلقوه، فالاستيطان في مناطق "يهودا والسامرة"، والتشدد الديني، والموقف المتنكر للفلسطينيين، هي قيم مبجلةٌ مُبالغٌ فيها. فالمستوطن الذي أحرق عائلة دوابشة في قرية دوما قضاء نابلس لم يفعل ذلك لأنه يعتقد أنه يفهم الأمن أكثر من وزير "الأمن"، بل لأنه يعتقد أن التوراة، التي يرى نفسه ممثلاً لها على الأرض، تَفهَمُ أكثرَ من وزير "الأمن". نعم، تَمَردَ "فتية التلال"، في بحثهم عن الحقيقة والأصالة، ضد الحاخامات الذين علّموهم، لكن ليس على تعاليمهم، بل إن التطرف في تطبيق هذه التعاليم هو الذي يُنتج لهم "وجوداً يهودياً أصيلاً".
ولا بد من الإشارة إلى أن الحد الفاصل بين تلك "الجماعة المتطرفة" والأغلبية الإسرائيلية المُتراخية التي تتحمّل أفعالهم، يعتمد في الواقع على حدود ما يراه المجتمع مسموحاً به أو محظوراً، إذ يساهم الإنكار واللامبالاة بين الجمهور اليهودي إلى جانب تراخي المستوى السياسي وتشجيعه، في تعزيز هذه الظاهرة وتغذيتها. فحين يشجع سموتريتش وبن غفير جرائم هؤلاء فإن أفعالهم تزدهر على أرض خصبة من الدعم العلني والسري، بما في ذلك القيادتين السياسية والروحية، اللتين تريان الإرهاب أداة مشروعة في النضال من أجل إنشاء "دولة واحدة يهودية نقية من البحر إلى الأردن".
والخلاصة أنه إذا كان الإرهاب اليهودي، قبل قيام "دولة إسرائيل"، قد استُخدم كأداة لإطاحة الانتداب البريطاني وإقامة دولة قومية يهودية في "أرض إسرائيل"، فإن الإرهاب اليوم لا يستخدم فقط كأداة لقتل الفلسطينيين وإيذائهم، بل ولإقامة "دولة الشريعة اليهودية"، وبخلاف أيام ما قبل "الدولة"، فإن الإرهابيين اليهود اليوم لديهم ممثلون في أعلى مستويات الحكومة يشاركونهم رؤيتهم ويحمون ظهورهم، بل ويشجعون إرهابهم.