عود على بدء.. الناتو يعتبر روسيا خصماً رئيسياً
سيصار إلى تصنيف روسيا كتهديد لأمن الغرب الأطلسي، في الوثيقة التي ستنتج عن اجتماع أعضاء حلف الناتو في مدريد، وهو ما يعتبر تغييراً مصيرياً في استراتيجية الحلف منذ 2010.
قمة الناتو التي تحتضنها مدريد هذه الأيام سيكون حدثها الرئيسي اعتماد مفهوم استراتيجي جديد. هذه الوثيقة ليست بيروقراطية بطبيعتها في أي حال من الأحوال. إنها نوع من التبرير للحاجة إلى التحالف في الظروف الحالية، وللاتجاه الذي يجب أن يتطور وفقه، وهو بوصلة لبلدان محددة في التخطيط العسكري.
المفهوم الاستراتيجي المعتمد في قمة الناتو لعام 2010 في لشبونة لا يزال ساري المفعول. الولايات المتحدة وحلفاؤها لم يروا أن من الضروري تغييره، حتى بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. أما الآن، فهم يرون أن الزمن عفا عليه.
التغيير المفتاحي والمصيري في المفهوم الاستراتيجي بالنسبة إلى مستقبل حلف شمال الأطلسي واحد: ستتم الإشارة إلى الخصم الرئيسي في الوثيقة. وكما قال الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرغ عشية القمة، فإنه سيعلن في مدريد أن روسيا لم تعد شريكاً، بل تهديد لأمن الغرب الأطلسي، وكذلك للسلام والاستقرار.
للتذكير، إن آخر مرة تمت الإشارة فيها إلى الخصم المحتمل في المفهوم الاستراتيجي كانت عام 1967. كان ذلك المفهوم هو الأطول عمراً، فقد تم استبداله بعد 24 عاماً، أي بعد نهاية الحرب الباردة. ومع المفهوم الاستراتيجي لعام 1991 – الأول الذي لم يكن سرياً، والأول الذي لم تعتبر فيه مواجهة موسكو هدفاً للحلف - بدأت فترة جديدة في تاريخ الناتو، فقد أخذ التحالف السياسي - العسكري بالاستغناء عن الخصم العسكري، ولم يعد لديه هدف واضح يبرر وجوده.
لفترة طويلة، كانت هذه الحالة مناسبة للجميع في الناتو، وخصوصاً في أوروبا. في ظلّ الحديث عن أن الأمن يجب أن يفهم الآن على أوسع نطاق ممكن، خفض الأعضاء الأوروبيون القدامى في الحلف الإنفاق الدفاعي المكلف، وكذلك فعل الأعضاء الجدد. بالنسبة إليهم، كان الانضمام إلى الناتو إضافةً سهلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وأيضاً، كان نوعاً من يمين الولاء للولايات المتحدة، والذي، كما كان يفترض ضمنياً، سيقرر بطريقة أو بأخرى ما يجب فعله إذا كانت سيادة دول أوروبا الشرقية مهددة حقاً.
لقد أثبتت النزاعات في يوغوسلافيا والعراق وليبيا وأفغانستان، وحتى سوريا، مراراً وتكراراً أن الحد الأقصى للمشاركة في الأنشطة القتالية التي تسمح بها أوروبا هو عمليات محدودة بقوات صغيرة، ويفضل أن يكون القصف من الجو، في ظروف عجز الدفاع الجوي للعدو، وشرط أن يقوم طرف آخر بالعمل على الأرض. على سبيل المثال، الولايات المتحدة، وهذا ما أثار سخط دونالد ترامب، الذي رأى أن أوروبا بالكاد تقتنع بزيادة الإنفاق العسكري حتى بعد عام 2014، أي بعد استعادة روسيا للقرم.
لقد تخلصت المجتمعات والاقتصادات في الدول الغربية منذ فترة طويلة من فكرة أنّ الحروب العالمية، على غرار حروب القرن العشرين، أمر ممكن.
وفي 24 شباط/فبراير 2022، تغير كل شيء. اتخذ الغرب مساراً لدعم كييف في مواجهتها مع موسكو. وعلاوة على ذلك، لتأمين عدم تجاوز الصراع حدود أوكرانيا. وقد حذر ستولتنبرغ بالفعل من أن نتيجة قمة مدريد ستكون زيادة حادة في الإنفاق العسكري، وحثّ أعضاء الناتو على الاستعداد لذلك. سيكون هناك أيضاً إعادة نشر وحدات عسكرية إضافية على حدود روسيا، فقد اتفق وزراء دفاع الناتو على إنشاء قوات خاصة، والتي، إذا اقتضت الحاجة، ستعزز الجناح الشرقي للتحالف.
سوف تتغير السياسة وفقاً لذلك. إذا كان هناك عدو محتمل، فسيكون هناك، كما حدث خلال الحرب الباردة، حلفاء مجبرون على الإيفاء بالالتزامات، ولكن يغفر لهم كل شيء، ما داموا يساعدون في "الحفاظ على النهج العام".
لقد نجح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في استشعار هذا التغيير. ليس من قبيل الصدفة أنه وعد بشكل غير متوقع بمنع التوسع الذي تم التفاوض عليه بالفعل لحلف الناتو على حساب السويد وفنلندا. كان من المقرر أن تبدأ عملية قبول هذين البلدين في التحالف على أقل تقدير في القمة الحالية في مدريد، ولكن الآن كل هذا تحت سؤال كبير. إن شروط رفع الفيتو، التي حددها إردوغان، بالكاد ممكنة، على الأقل كامل الشروط.
الزعيم التركي يطالب السويد وفنلندا بتسليم جميع أولئك الذين تعتبرهم أنقرة إرهابيين ومتواطئين مع الإرهابيين، وهؤلاء هم الذين وبخوا إردوغان في شبكات التواصل الاجتماعية، ومن بينهم ناشطو المنظمات المحظورة في أنقرة، ولكنها مرخصة في جميع أنحاء أوروبا. ليس مستبعداً أن يخفض إردوغان سقف شروطه.
على الأرجح، سنرى تكراراً للتكتيكات المستخدمة خلال الحرب الباردة من قبل قادة الأنظمة المناهضة للشيوعية، والتي كانت بعيدة عن معايير الديمقراطية الغربية. لقد اشترط أولئك عدم تدخل واشنطن في شؤونهم في مقابل دعمهم الولايات المتحدة في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي. لذلك، يوضح إردوغان أنه لن يكون حليفاً ضد روسيا من أجل لا شيء.
لحسن حظ روسيا أن الزعيم التركي لديه مصلحته الخاصة. هناك انتخابات عامة في بلاده العام المقبل. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، فإن في المنافسة على الرئاسة، من المضمون أن إردوغان، الذي فقد شعبيته إلى حد كبير، سيخسر أمام أي مرشح من المعارضة. ويُخشى أن الزعيم الحالي سيستخدم الموارد الإدارية بلا خجل، ويتوقع أن الغرب لن يغض الطرف عنها.
بطبيعة الحال، إن قادة أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا مدعوون إلى مدريد. وعلى عكس الضيوف من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإن وجودهم في القمة لن يكون رمزياً فقط، فالحدث الثاني للقمة بعد اعتماد المفهوم الاستراتيجي سيكون الموافقة على حزمة شاملة من المساعدات لأوكرانيا. وستتلقى جورجيا على الأقل تأكيداً بأن الوعود المتعلقة بانضمام البلاد إلى الناتو على المدى الطويل، والتي قُطعت لها عام 2008 في قمة بوخارست، لا تزال سارية المفعول.
وستحصل مولدافيا أيضاً على الدعم المعنوي، وربما المادي أيضاً، وكذلك على وعود بآفاق الانضمام إلى الناتو.
صحيح أن التحالف سيبحث أيضاً التهديد الصيني المزعوم، لكن ذلك لن يرتقي إلى وصف الصين بالعدو أو الخصم، فالخصم الذي يبرر بقاء الناتو واستقطاب أعضاء جدد وإغداق المال بلا حساب على الإنفاق العسكري هو روسيا.