عندما ينتصر المراسل في معركة الصورة على الهواء مباشرة
موتُ الفلسطيني اليوم بات أيضاً بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة، اللهم لا اعتراض على حكمك ولا على حكمتك، لكن هذا الموت المصوّر، في حلقات متسلسلة، والممتد على عدة مشاهد، يحتاج إلى تحليلٍ آخر؛ إلى تحليل مغاير.
نجح وائل الدحدوح، بإنسانية ووطنية وعفوية بالغة، في تحويل الواقعة التي حلّت به وبأسرته إلى وقائع "نصر" مُعلن.
لا يمكن لبشريّ أن يسبر أغوار أبٍ وزوجٍ وجدٍّ مفجوع، مثل الزميل وائل الدحدوح من قناة الجزيرة، والذي فقد جزءاً كبيراً من عائلته في غارة إسرائيلية.. إلا أن يكون في مكانه وعاش ما عاشه من اعتصار للروح، ومن اختبار الأقدار له.
ولا يمكن لمراسل صحافي في العالم أن يكون الخبرَ والمُخبر، الرواية والراوي، المُرسل والمتلقي وقناة الاتصال، في آنٍ واحد.. إلا أن يكون فلسطينياً في فلسطين، وتحديداً في إبّان المواجهة الأخيرة في غزة. فكلمة فلسطيني في هذه الأيام لم تعد اسماً، بل جملة كاملة بفعلٍ وفاعلٍ ومفعول به، عدا عن ظروف الزمان والمكان وأحرف الجرّ.
موتُ الفلسطيني اليوم بات أيضاً بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة، اللهم لا اعتراض على حكمك ولا على حكمتك، لكن هذا الموت المصوّر، في حلقات متسلسلة، والممتد على عدة مشاهد، يحتاج إلى تحليلٍ آخر، إلى تحليل مغاير.
البداية من تلك اللحظة للنقل المباشر، مساء ذاك اليوم الخريفي من شهر تشرين الأول/أكتوبر، الساخن بقنابل الغزاة. الكاميرا موجهةٌ نحو مدينة غزّة القابعة في ظلام يترقب هطولَ كرات النار، والصوتُ لمراسلٍ هادئ عُرِف بين زملائه بتواضعه وتفانيه وصمته، اسمه وائل الدحدوح، ويقول في لحظة "تجلّي" الروح: "هناك عدد من الغارات الإسرائيلية، شاهدنا أنها وقعت أو شنتها الطائرات الإسرائيلية في أكثر من مكان في قطاع غزة ومدينة غزة وشمالي القطاع وجنوبيه. وبالتالي، فإن هذا يُنذر بأنّ هذه الليلة ستكون كمثيلاتها ليلةً دامية في ضوء ما جرى وفي ضوء ما يجري حتى الآن".
لن تمهله الأقدار طويلاً، فبعد هذه الكلمات النبوءة سيرنّ الهاتفُ النقّال لتستمع البشرية إلى مكالمةٍ حيّة فوق مشهدٍ لمدينة الأشباح، ينطق فيها وائل الدحدوح بشذرات من صمتٍ وحروف وهمهمات وكلمات بلهجته الغزّية المحبَّبة، تلخّص رواية الفجيعة الكاملة: "مين؟ شو مين؟ إيش؟ إيش صار؟ خابطين؟ مش عارفين وينهم كلهم؟ آه يا عمي احكي، مين؟ آلو، مين هي اللي عندك؟". يجيب صوتٌ: "بنتك يا زلمة". يسود بعدها بكاء صوت نسائي وصراخ يخرجان من هاتف نقّال في بقعة اسمها غزة، ويدخلان روح المراسل وميكرفونه، فتنقلهما الأقمار الاصطناعية على الهواء مباشرةً إلى آذان الملايين وضمائرهم، في كل مكان.
هو مشهدٌ أول لا ينقصه عنصرٌ من عناصر الدراما، بل إنه يعطي كلمة المأساة بُعداً جديداً، لكن هوليوود لن تنتج فيلماً عن هذا المشهد بكل تأكيد، لا ثنائي الأبعاد، ولا ثلاثي الأبعاد. يعرف الدحدوح ذلك، وهو السجين السابق في سجون الاحتلال، بعد الانتفاضة الأولى. ويعرف ذلك أيضاً كسجين دائم للاحتلال مع ملايين آخرين محاصَرين معه في سجن اسمه غزة. قرّر أن يخوض معركةَ الصورة وحده: الدحدوح من جهة، ممثلاً لفريق ناقلي الحقيقة، إلى يمين الشاشة القطرية، وخصوم الدحدوح من جهة أخرى، ممثلين لفريق قاتلي الحقيقة، إلى يسار الشاشة.
بدأت المعركة، إذاً، من حيث لم يحسب لها أحدٌ حساباً، وبشروطٍ قاسية على الدحدوح. فالاحتلال الإسرائيلي، كما سيخرج الخبر الصحفي البارد لاحقاً، قَتل، عبر غارةٍ على مخيم النصيرات جنوبي غزة، زوجةَ المراسل الصحافي وائل الدحدوح وابنَه وابنتَه الصغيرة وحفيدَه، في رمزيةٍ وحشية، تريد أن تقول: نستطيع استهدافَكم في حاضركم ومستقبلكم القريب والبعيد. نحن موتُكم العابرُ للأجيال. تلقّف وائل، بنباهته الفلسطينية، الرسالةَ، وأجاب عندما دخل المستشفى مُنهَكاً منتصباً ومتماسكاً، لا ينحني إلا عند جثمان
ابنته، ليقول: "آآه.. آآآه، تنتقموا منّا بالولاد، تنتقموا منّا بالولاد؟ معلش.. إنا لله وإنا إليه راجعون". هو المشهد الثاني في معركة الصورة، أصرّ فيه وائل الدحدوح على فكرة الدموع الإنسانية، دموع الزوج والأب والجد المفجوع، دموع الإنسان لأنه إنسان، لا دموع الانهيار أو الخوف أو الجبن أو الهزيمة في معركة لا تزال قائمةً: "فليخسأ جيش الاحتلال"، هكذا ختم الدحدوح هذا المشهد.
لكن الملحمة الفلسطينية عبر الشاشات كانت لا تزال تبحث عن مشهد الختام، عن المشهد الرسالة. وقفَ الزوج والأب والجد وائل الدحدوح أمام جثامين الزوجة آمنة والابن محمود، ذي الأعوام الستة عشر، والابنة شام، ذات الأعوام الستة، والحفيد آدم، الذي لم يتجاوز عمره خمسةً وأربعين يوماً، ليؤمّ صلاة الميت على أرواحهم.
تقول الصورة إنّ صلاة الميت تكون أحياناً صلاةً لتمجيد الحياة التي ستستمر، وإنّ من رحلوا ليسوا أمواتاً، بل أحياء عند ربّهم يُرزقون. تقول صلاة الدحدوح إنّ من ظنّ أنه قادرٌ على قتل الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، بجرائمه العابرة للأجيال، يواجه من هو قادرٌ على التمسّك بالأبدية والحياة، بمعانيها العابرة للأكوان والأزمان. وأخيراً تقول الصورة إن الدحدوح وشعبه وجّها صفعة إلى القَتَلة في معركة الصورة، فالدحدوح منشؤه فعل "دحّ"، الذي يعني: "ضَرَبَهُ بِكَفِّهِ مَنْشُورَةً فِي أَيِّ مَكانٍ مِنْ جَسَدِهِ"، كما تقول معاجم اللغة العربية.