عروض صينيّة جديدة للبنان.. فهل يتّجه نحو الصين؟
قد يتساءل البعض عن سبب اهتمام الصين بلبنان، والجواب واضح، فللأخير موقع مهم في مبادرة "الحزام والطريق" التي انضم إليها في العام 2017.
أعادت تغريدة وزير الأشغال العامة والنقل الدكتور علي حمية توجيه الأنظار مجدداً نحو الصين، إذ ذكر الوزير حمية في تغريدته أنَّ "وفداً من شركة صينيّة تُعنى بقطاع المرافئ قادم إلى لبنان، وسوف يزور مرفأ طرابلس، وذلك لدرس مشاريع توسعة المرافئ اللبنانية وتطويرها، وهذا سيكون بداية التعاون مع الصين".
إنَّ العروض الصينية للاستثمار في لبنان ليست وليدة اليوم؛ فمنذ عدة سنوات، يزور ممثلون عن شركات صينية لبنان للتباحث مع المسؤولين اللبنانيين في إمكانية الاستثمار في المرافئ والبنى التحتية والطاقة ومعالجة النفايات. وبعد حراك 19 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وانهيار الاقتصاد اللبناني، وتعذر المباحثات مع صندوق النقد الدولي، وغياب الدعم الخارجي، طلبت الحكومة اللبنانية مساعدة الدول الصديقة، وكان التوجه نحو الشرق خياراً لدى لبنان، وكانت الصين أحد هذه الخيارات، فعُقد لهذه الغاية اجتماعٌ ضمَّ السّفير الصيني السابق في لبنان وانغ كه جيان ورئيس مجلس الوزراء السابق حسان دياب وعدداً من الوزراء المختصين. وبعد الاجتماع، صرّح وزير الأشغال اللبناني السابق ميشال نجار أنَّ "الصين مستعدة للتعاون والاستثمار في الكهرباء وسكك الحديد والأنفاق والمحارق والنفايات".
التوجه نحو الصين لم يعجب البعض ممن يميل نحو الغرب، الذي سارع إلى الادعاء أنَّ الصين سوف تُغرِق لبنان في الديون، وأنها غير جدية في عروضها، وذلك بهدف بث الرعب في قلوب اللبنانيين والمسؤولين وثنيهم عن قبول الاستثمارات الصينية.
وأدى الإعلام الغربي أيضاً دوراً في تشويه صورة الصين، فالإعلام الغربي يروج لما يسمى "دبلوماسية فخ الديون" (Debt-Trap diplomacy)، أي أنَّ الصين تثقل كاهل الدول الفقيرة بالديون. وعندما تعجز الأخيرة عن تسديد ديونها، تستولي الصين على مرافقها العامة.
أثارت هذه الاستراتيجية جدلاً كبيراً بين الصين والولايات المتحدة الأميركية خلال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ما دفع مايك بنيس، نائب الرئيس السابق دونالد ترامب، في العام 2018 إلى اتهام الصين باستخدام هذا الأسلوب من أجل السيطرة على الأصول البحرية الاستراتيجية في أجزاء مختلفة من العالم، وأكّد أنَّ الصين كانت تستخدم دبلوماسية الديون "لتوسيع نفوذها"، من خلال "تقديم مئات المليارات من الدولارات في شكل قروض للبنية التحتية للحكومات، من آسيا إلى أفريقيا إلى أوروبا، وحتى أميركا اللاتينية".
المثال الأبرز الذي يقدمه الغرب هو حالة مرفأ هامبانتونتا في سريلانكا، إذ يزعم أنَّ الصين استولت عليه لاستثماره لمدة 99 عاماً، بعدما عجزت سريلانكا عن دفع ديونها لها. الرواية التي يقدمها الإعلام الغربي لتشويه صورة الصين وإظهارها على أنها تريد إخضاع الدول المدينة لنفوذها مجتزأة؛ فبحسب دراسات أجريت حول الديون الصينية تبيَّن أن هناك حالات كثيرة أجرت فيها الصين عمليات تخفيف عبء الديون على الدول المدينة، عبر شطب جزئي أو كلي للديون.
وأشار مقال نُشر في موقع "The Atlantic"، بتاريخ 6 شباط/فبراير 2021، تحت عنوان "فخ الديون الصينية هو أسطورة" (The Chinese Debt Trap is a Myth)، إلى أنَّ الصين، وفقاً لدراسة أجريت تحت عنوان "تخفيف عبء الديون بخصائص صينية"، مستعدة لإعادة هيكلة شروط القروض الحالية، ولم تستولِ أبداً على أصول أي بلد، ناهيك بميناء سريلانكا.
ووجدت الدراسة أيضأ أنَّ الصين أعلنت شطب كل الديون المترتبة على العراق، من دون أن تحدّد قيمتها بشكل رسمي، ولكن في العام 2010 أعلنت الحكومة العراقية أن الصين وافقت على شطب 80% من الديون المترتبة على العراق للشركات الصينية، والبالغة 8.5 مليارات دولار. وإضافة إلى العراق، شطبت الصين 47% من أصل 6 مليارات دولار كانت مترتّبة لمصلحتها على كوبا.
وفي العام 2017، أعلنت الحكومة الصينية إعفاء اليمن من ديون تصل إلى أكثر من 100 مليون دولار. وخلال العام الفائت، صرّح وزير المالية الصيني ليو كون أنّ بلاده شطبت ديون دول نامية بقيمة إجمالية 2.1 مليار دولار، بموجب إطار عمل لمجموعة العشرين.
وبالتالي، إن دبلوماسية فخ الديون هي ادعاء يتبعه الغرب لثني الدول عن التعاون مع الصين وإفشال مبادرة "الحزام والطريق". أما في ما يتعلق بحجَّة أنَّ الصين غير جدية بالاستثمار في لبنان، ولم تقدم على أي خطوة في هذا المجال، فتشير المصادر إلى أن شركة "CMC" الصينية راسلت كلاً من رئيس الحكومة السابق حسان دياب ووزير الطاقة السابق ريمون غجر، معلنةً اهتمامها بالمشاركة في مناقصة إنشاء معامل كهرباء في كلٍّ من سلعاتا والزهراني ودير عمار، وفق نظام "BOT". وأيضاً، تم توقيع مذكرة تفاهم بين شركات صينية ووزارة الأشغال العامة والنقل في عهد الوزير السابق يوسف فنيانوس بشأن أعمال سكّة الحديد وقطاع النقل.
هذه الحماسة الصينية للاستثمار في لبنان قابلها تردد من قبل الجانب اللبناني لعدة أسباب، أهمها أن بعض المسؤولين يخشون من أن التوجه نحو الصين سيعرّضهم لعقوبات أميركية أو قد يضرّ بمصالحهم الشخصية مع الغرب.
قد يتساءل البعض عن سبب اهتمام الصين بلبنان، والجواب واضح، فللأخير موقع مهم في مبادرة "الحزام والطريق" التي انضم إليها في العام 2017، والصين تسعى إلى إنجاح مبادرتها التي تعتبرها "مشروع القرن".
وفي هذا الإطار، قال السفير الصيني في لبنان تشيان مينجيان عن دور لبنان في مبادرة "الحزام والطريق" إنَّ "بكين تعتبره محطة محورية مهمة تاريخياً وحلقة حيوية في مبادرة الحزام والطريق في المرحلة المعاصرة". كما أنَّ لبنان نقطة عبور البضائع بين الشرق والغرب، وله دور في عملية إعادة إعمار سوريا، التي أعلنت الصين مراراً وتكراراً أنها على استعداد للمشاركة فيها.
وبالعودة إلى تغريدة وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية حول زيارة شركات صينية لمرافئ لبنان للتباحث في إمكانية توسيعها وتطويرها، فللصين خبرة كبيرة في هذا المجال، فهي تمتلك 10 من أفضل 100 ميناء في العالم، ويرتفع العدد إلى 11 ميناء إذا تم إدراج ميناء هونج كونج ضمن قائمة الموانئ الصينية.
وبذلك، تحتلّ الصين القائمة العالمية، تليها الولايات المتحدة التي تملك 9 موانئ ضمن القائمة. ومن بين أفضل 10 موانئ في العالم من حيث حجم شحن البضائع والحاويات، تمتلك الصين 7 منها. ويعتبر ميناء شنغهاي من أكبر مرافئ العالم وأكثرها ازدحاماً. وبحسب دراسة أعدّتها "جود بلانشيت" وآخرون بعنوان "موانئ خفيّة"، فإن شركات الشحن الصينية تصنّع 96% من حاويات نقل البضائع في العالم، كما أنها تصنّع أكثر من 80% من رافعات المرافئ في العالم.
وعلى مدى السنوات الماضية، اشترت الصين حصصاً في موانئ بحرية في العديد من دول العالم، منها بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا وأميركا اللاتينية، وهي تقوم بالاستثمار في ميناء بيريوس اليوناني الذي يعد من أكبر موانئ اليونان وأهمها، كما تقوم بالاستثمار في ميناء الحمدانية في الجزائر، والَّذي من المتوقّع أن يصبح أكبر ميناء في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
وتمتاز الشركات الصينية بسرعة إنجاز مهامها، وهو ما يحتاج إليه لبنان حالياً، ولا سيما إعادة إعمار مرفأ بيروت، لأن البقاء من دونه لفترة طويلة سيكون له أثر سلبي في الاقتصاد المنهار أصلاً.
تجدر الإشارة إلى أنّ شركة "تشاينا هاربور" الصينية كانت قد عملت على تأهيل مرفأ طرابلس في العام 2012، ليصبح جاهزاً لاستقبال كل أنواع السفن الضخمة، إذ شهد توسعة حوضه لاستقبال أضخم أنواع السفن البالغ غاطسها 15.5 متراً، ونفذت رصيفاً لاستقبال الحاويات مجهزاً برافعات صينية متطورة قادرة على رفع ونقل أكثر من 700 حاوية في اليوم، أي ما يعادل 480 ألف حاوية في السنة.
بعد تردّد لبنان في قبول النفط الإيراني خوفاً من العقوبات الأميركية، وصل النفط أخيراً إليه من دون أن تحرك الإدارة الأميركية ساكناً. وها هو اليوم يعلن نيته التحرك نحو الشرق والصين، وما تحتاجه الحكومة اللبنانية حالياً هو الجرأة في الموافقة على الاستثمارات الصينية وتحويل الأقوال إلى أفعال.
وإذا كان المسؤولون اللبنانيون يخافون من فرض عقوبات أميركية بسبب الاستثمارات الصينية، فإنّ هذه العقوبات لن تكون أشدّ مرارة من الأوضاع التي يعيشها الشعب اللبناني. كما أنّ للصين استثمارات ضخمة في مختلف دول العالم، وفي أغلب الدول العربية، ولم نرَ أنَّ هناك عقوبات أميركية فُرضت عليها. وفي حال خوف المسؤولين اللبنانيين على مصالحهم الخاصة، ألا يجب تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة؟!