"طالبان" في كابول.. ما موقف موسكو وبكين؟
من المرجّح أن تصبح أفغانستان المستنقع الجيوسياسي، وأن تكون بكين القوة التالية، في محاولة لملء الفراغ في أفغانستان.
مع قرار مغادرة القوات العسكريّة الأميركيّة وحلف شمال الأطلسي أفغانستان، تحول ميزان القوة العسكرية لمصلحة "طالبان" بشكل كبير. اختفاء القوات الأميركية خلال الليل من قاعدة "باجرام" الجوية، التي كانت مركز عملياتها في أفغانستان، كان بمثابة ضربة قوية لمعنويات قوات الأمن الأفغانية. الافتقار إلى الوضوح مقترناً بالتشرذم السياسي أدى إلى تكهّنات، وإلى غياب الإرادة السياسيّة لمحاربة "طالبان"، ولا سيّما في الشمال والغرب بين أغلبيّة السكّان من غير الباشتون.
كانت "طالبان" قد بدأت بعد قرار الانسحاب مباشرة بالمطالبة بأراضٍ في أجزاء مختلفة من البلاد. سرعة تفكّك وحدات الحكومة الأفغانيّة أدت إلى مطالبتها بالسيطرة الكاملة على العاصمة الأفغانية كابول بعد حصارها واتخاذ مقاتليها مواقع في ضواحي المدينة.
تتحمَّل واشنطن مسؤولية ضعف الأمن في البلاد بعد عقدين من الاحتلال، بسبب أدائها في تقديم مشاريع الطاقة والبنية التحتية والتنمية بشقيها البشري والاقتصادي. يعتبر هذا الموضوع أكبر إخفاقاتها على مدار الأعوام العشرين الماضية.
مع محاصرة كابول، أرسلت الولايات المتحدة طائرات هليكوبتر لإجلاء الدبلوماسيين من سفارتها. وصرح وزير خارجيتها أنتوني بلينكن أن أفغانستان ليست سايغون، في إشارةٍ إلى انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام 1974، موضحاً أن الولايات المتحدة نجحت في مهمتها بوقف هجمات "طالبان" على قواتها، وقال: "ببساطة، ليس من مصلحتنا البقاء في أفغانستان".
استثمرت الولايات المتحدة وحلفاؤها مليارات الدولارات في تطوير وتسليح وتدريب الجيش والقوات الجوية والقوات الخاصة والشرطة الأفغانية، وأنفقت وحدها ما يقارب 83 مليار دولار على قطاع الدفاع منذ العام 2001. أما "الناتو"، فقد تبرع بأكثر من 70 مليون دولار من الإمدادات لقوات الدفاع الأفغانية، بما في ذلك المعدات الطبية والدروع الواقية من الرصاص هذا العام.
في تبرير ما جرى في أفغانستان، قال خبراء غربيون إن الخطأ لا يكمن في التدريب أو المعدات المقدمة لأفغانستان، بل إنّ أسباب الفشل الذريع تنبع من حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني. تشتهر وزارتا الدفاع والداخلية بالفساد، كما تقول "الفورين بوليسي"، في تبرير لفشل الرهان على قوات الدفاع في الداخل الأفغاني.
يقول الخبراء الغربيون إن عدم كفاءة المسؤولين الأفغان على نطاق واسع والافتقار إلى القيادة والمصلحة الذاتية هي السبب في تسليم السلاح والعزوف عن الدفاع عن معظم المدن الأفغانية. هل كانت الولايات المتحدة تسعى إلى حرب أهلية حرمها منها تقدم "طالبان" السريع، في حين كانت تراهن على مرور شهرين قبل محاصرة الأخيرة العاصمة ودعواتها الفرقاء إلى تقاسم السلطة، تنفيذاً لما قيل إنه اتفاق الدوحة، أو أن هناك اتفاقاً جرى مع "طالبان" لتسليمها كامل أفغانستان، من دون إبلاغ أشرف غني؟
ما هي مصالح ومواقف موسكو وبكين؟
لا شكّ في أن أفغانستان هي ساحة جيوسياسية معقدة، ولا تزال واحدة من أشرس ساحات المعارك في العالم، لكن مصالح الولايات المتحدة لم تعد كما كانت بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001. لقد حولت الولايات المتحدة تركيزها في أفغانستان إلى المنافسة مع الصين وروسيا.
مع ذلك، لدى واشنطن مصالح أمنية في أفغانستان والمنطقة المحيطة بها. تكمن المصلحة الأميركية في الحدّ من النفوذ الروسي والصيني والإيراني واستعمال الأزمة الإنسانية كمنفذ لإعادة التدخل في كابول، لكنَّ وراء الأفق ما وراءه، إذ ترى أنّ لدى طالبان سجلاً موثقاً من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان ضد النساء والأجانب والأقليات العرقية والصحافيين، ما أدى إلى تضخّم أعداد اللاجئين إلى 2.7 مليون، وترى أنّ من المرجح أن تتضخّم أعداد اللاجئين الذين لا يرغبون في العيش في ظلِّ سلطة "طالبان".
قد تكثر التّحليلات حول الاجتياح السريع للأراضي الأفغانية لاسترداد "طالبان" حكم أفغانستان، وهي التي حكمتها منذ العام 1996 إلى العام 2001، إلى أن اجتاحها الأميركيون، لكن لماذا تعطي أفغانستان هذه الأهمية القصوى لجيرانها، وبعد فشل أكبر دولتين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، في السيطرة عليها؟ وما أهميتها بالنسبة إلى جيرانها؟
جغرافياً واستراتيجياً، تقع أفغانستان في نقطة ساخنة تربط الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا وأوروبا. عمّقت كل من باكستان وإيران علاقتهما مع بكين في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، وتعتبر الممرات الاقتصادية الصينية الباكستانية من المشاريع الاستراتيجية ذات الأهمية الكبيرة، ويعد بناء مطار "تاكسكورغان "على هضبة "بامير" في منطقة الإيغور الذاتية الحكم في شينغيانغ استثماراً طويل الأجل، وهي المدينة الوحيدة في الصين على حدود 3 دول هي طاجيكستان وباكستان وأفغانستان. تشترك الصّين وأفغانستان في حدود طولها 80 كيلومتراً، وتهتم الصين بتنشيط طريق الحرير في أفغانستان، وهو حالياً في مرحلة التنفيذ، ويتم تمويله من قبل الحكومة الأفغانية من دون أيّ تدخل صيني.
تسعى بكين للحصول على موطئ قدم في أفغانستان، انطلاقاً من مشروع "الحزام والطريق"، في أعقاب الانسحاب الأميركي من البلاد، وهي تعمل بالفعل على بناء علاقات مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة في أفغانستان، وتحاول إبعاد "طالبان" عن دعم مسلمي الإيغور في مقاطعة شينجيانغ الصينية.
وبناءً على مفهومها لـ"قوى الشرّ الثلاث"، المتمثلة في التطرف والإرهاب والانفصالية، تلتزم الصين بقمع أي نشاط يهدد بتحويل شينغيانغ إلى بؤرة للتطرّف الإسلامي والإرهاب، وستحاول تقديم حوافز اقتصادية لـ"طالبان" لضمان دعمها مبادرة "الحزام والطريق" في باكستان وأفغانستان.
جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة، موسكو وبكين وواشنطن، وبدرجة أقل بروكسل، مهتمة بدمج جنوب ووسط آسيا من خلال مختلف ممرات الاتصال والنقل والتجارة، والجميع يتنافسون بالفعل على النفوذ والوجود في آسيا الوسطى. وعلى الرغم من طلب الولايات المتحدة استقبال اللاجئين الأفغان بعد الانسحاب، لا تزال روسيا قلقة من المخاطر والتهديدات المحتملة من استضافة الآلاف من اللاجئين الأفغان وأي جهود لتنشيط الوجود الأميركي في آسيا الوسطى.
بالنّسبة إلى روسيا، العلاقة مع جيران أفغانستان في آسيا الوسطى هي استمرار منطقي لعملية التكامل داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وبالنسبة إلى الصين في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، لا ترغب موسكو في وجود القواعد الأميركية في محيطها. لذلك، هناك إجراءات وتدابير منسقة بين بكين وموسكو في ما يتعلق بأفغانستان وآسيا الوسطى، ربما في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون أو بشكل ثنائي.
من المرجّح أن تصبح أفغانستان المستنقع الجيوسياسي، وأن تكون بكين القوة التالية، في محاولة لملء الفراغ في أفغانستان. ربما هذا هو بالضبط سبب انسحاب الولايات المتحدة الآن، ويمكن أن تصبح هذه الخطوة فخاً أميركياً إذا فشلت الصين وغرقت في المستنقع الأفغاني. ربما ستكون أفغانستان اختباراً جيوسياسياً مهماً لبكين.