صنعاء تحذّر والرياض تماطل.. ما المآلات؟
في خطابه في ذكرى الصرخة، وجه السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي رسائل قوية شديدة الوضوح، مثّلت خلاصة الموقف الذي كانت صنعاء تعكف على دراسته منذ قرابة أسبوعين.
بين مراوحة الرياض ومروحة خيارات صنعاء، تتأرجح المرحلة الحالية في اليمن من دون تقدم، فضلاً عن الحسم، لكن المعلوم أن هذه الحالة لن تستمر إلى ما لانهاية، ومآلاتها ليست في مصلحة السعودية وطموحاتها الاستثمارية والاقتصادية.
في هذه المرحلة، لم تكتفِ واشنطن بالتأثير في مقاربات الوكلاء (السعودية والإمارات) تجاه الملف اليمني، بل كلفت سفيرها في اليمن خلال الأيام القليلة الماضية بزيارة مندوبي وسماسرة السعودية على مستوى المحافظات، وخصوصاً النفطية منها (حضرموت ومأرب)، بهدف عرقلة أي جهود أو تقارب يفضي إلى سلام حقيقي.
تأتي هذه الزيارات تتويجاً لدور مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، والمبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن تيموثي ليندر كينغ، وعدد من المسؤولين الأميركيين الذين ترددوا بشكل لافت إلى الرياض وعواصم أخرى خلال الفترة الماضية.
وحتى نكون واقعيين، فقد نجحت واشنطن إلى حد كبير في إجهاض التفاهمات والتقارب بين صنعاء والرياض، وأعادت الأمور إلى نقطة الصفر؛ ففيما كان يفترض الترتيب لجولة مفاوضات جديدة تسمع فيها صنعاء رداً سعودياً إيجابياً، برز الموقف السعودي في إعلان جدة وفي حديث محمد بن سلمان خلال قمة جدة سلبياً للغاية، ليثبت الموقف من جديد أن السعودية تابعة لواشنطن، ولم تصل بعد إلى مرحلة استقلال القرار السياسي، بل لم تجرؤ على ذلك.
ينسحب الأمر على مجلس الأمن نفسه، وعلى الأمم المتحدة نفسها، إذ كانت جلسة 17 أيار/مايو الجاري بخصوص اليمن سلبية أيضاً، وظهر ممثل الأمم هانس غراندبرغ في إحاطته السيئة والمخيبة للآمال كما لو أنه مبعوث آخر لإدارة بايدن؛ يقرأ ما كتب بعد عودته من واشنطن.
وقد بدا بشكل فجّ في موقف الداعم لمشاريع ودعوات الانفصال في المحافظات الجنوبية لليمن، وكان منحازاً بشكل واضح إلى حكومة المرتزقة، بتنديده بعمليات حماية الثروة ومنع استمرار الشركات الأجنبية في نهب النفط والغاز، ما لم يتم تسخير عائداتها لمصلحة الخدمات والمرتبات.
وعلى عكس حديث هانس غراندبرغ عن "بيئة مواتية للمراحل التالية بعد عام وسبعة أشهر من انتهاء الهدنة رسمياً"، برزت "المراحل المواتية" في شكل عراقيل في ملفات كثيرة، أبرزها مفاوضات الأسرى التي كانت مقررة منتصف أيار/مايو للإفراج عن 1400 أسير من الطرفين، كما لم تحدث أي تحسينات في حركة السفن باتجاه ميناء الحديدة وحركة الرحلات الجوية باتجاه مطار صنعاء، واقتصرت الرحلات على الأردن كوجهة وحيدة، مع عدم الالتزام بتسيير الرحلات التجارية إلى الوجهات المتفق عليها بموجب التهدئة والهدنة.
بهذه الخطوات، خيمت لدى المراقبين سحابة من التشاؤم، وتلاشت فرص السلام، على عكس سحابة التفاؤل والإيجابية التي سبق أن رافقت زيارة الوفد السعودي إلى صنعاء خلال شهر رمضان في نيسان/أبريل الماضي.
هذا التعطيل والجمود لم يكونا أمراً مفاجئاً، بل كانا نتيجة متوقعة للزيارات والاتصالات الأميركية المكثفة إلى الرياض منذ مفاوضات رمضان، وبدت كل المواقف والمقاربات الإقليمية والدولية والأممية انعكاساً واضحاً لإرادة سياسية أميركية، كما تبين أن الرياض "تملك هامشاً أميركياً ضيقاً باتجاه اليمن"، على عكس ما فعلت باتجاه إيران وسوريا، وقبلهما الصين. وقد تحدث عن ذلك السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابه لمناسبة الذكرى السنوية للصرخة.
خيارات حاسمة وحساب مفتوح
في خطابه في ذكرى الصرخة، وجه السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي رسائل قوية شديدة الوضوح، مثّلت خلاصة الموقف الذي كانت صنعاء تعكف على دراسته منذ قرابة أسبوعين، ونحن نعتقد أن ما بعد الخطاب ليس كما قبله، وبالتالي قد نكون أمام خيارات حاسمة إذا استمر التعاطي السلبي من دون تقدم في الملفات الإنسانية.
حسم السيد الحوثي أن "معاناة اليمنيين لا يمكن أن تستمرّ من دون حساب". وفيما وسع دائرة الخيارات من خلال التلويح بعودة عمليات كسر الحصار واستهداف عصب الاقتصاد السعودي، ومنع عمليات نهب الثروة النفطية والمعدنية في اليمن بعمليات عسكرية في البر والبحر، فإنه ضيّق على دول العدوان هامش المناورة بالوقت، وأكد أن "استقرار السعودية وطموحاتها الاقتصادية مرهونان بالاستقرار في اليمن".
هذه المواقف جاءت بعد فرصٍ ومهل كثيرة، وبعد شهر ونصف شهر من الانتظار. ومع أنَّ القيادة لم تكن تثق بالمسؤولين السعوديين، إلا أنَّها كانت تعطي مساحة للجهود الوسيط العماني، وهو ما لفت إليه السيد عبد الملك بقوله: "بقدر ما أعطينا مساحة لجهود الإخوة في عُمان، لا يمكن أن نستمر إلى ما لانهاية، فيما يظن الآخرون أنهم يكسبون الوقت لتنفيذ المؤامرات"، مضيفاً: "الشعب اليمني، في ظل المماطلة، معني بالتصدي للعدوان والجاهزية لكلّ الاحتمالات في أي وقت".
ثمة فرصة أخيرة بمنزلة تحدٍّ للنظام السعودي، وهي أن يثبت "استقلاليته عن واشنطن في ملف اليمن ورفع الحصار عن الشعب اليمني". لا يمكن التكهن بمآلات الأمور، لكن هذه التحذيرات يجب أن تؤخذ على محمل الجدّ سعودياً، وإلا فإن طموحات المملكة الاقتصادية وخطة 2030 ستكون في مهب الريح وفي عين العاصفة اليمنية.
قد تلوذ الرياض بالوساطات مجدداً، وقد نشهد زيارات خلال الفترة المقبلة، لكنَّ صنعاء بعدما أوشك صبرها على أن ينفد تخطط، كما يبدو، لانتخاب الوقت المناسب لتسديد ضرباتها إلى أماكن الوجع السعودي، ما لم تتدارك السعودية أمورها بعيداً من المناورات السياسية، وبعيداً من الخط الأميركي المعلق، فالمتغطي بأميركا عريان، و8 سنوات كافية للدروس والعبر، والتجارب كثيرة. وقد أثبتت أن أميركا تتخلى عن حلفائها، ولا تقدّم لهم أمناً ولا حماية.