سوريا وسبل الخروج من الانكشاف الاستراتيجي

تمر سوريا في أوضاع وتحديات غير مسبوقة، بعد انكشاف التدهور العميق، الذي آلت إليه البلاد، دولة ومؤسسات وجيشاً واقتصاداً وخدمات وإدارة عامة وبنية تحتية وحياة مدنية.

0:00
  • المشهد الاستراتيجي الإقليمي.
    المشهد الاستراتيجي الإقليمي.

تشهد المنطقة بأسرها حالة سيولة وهشاشة استراتيجياً، وبيئة جيوسياسية غير آمنة، وانعدام المناعة السياسية إزاء انفلات العدوانية الصهيونية، التي تستهدف منذ أعوام طويلة سوريا، وجوارها العربي وجوارها الإسلامي، في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران، شعوباً ودولاً ومقاومة.

ويعود هذا إلى محدودية الخيارات الاستراتيجية الصهيونية والإمبريالية في الإقليم، والمرتبطة بأيديولوجية كيانات الاستيطان التوسعية وسياساتها، وبتغولها على شعوب جوارها ودولها، وبإنكارها حقهم في الوجود، وبموقع سوريا في أجندة التوسع الصهيونية.

المشهد الاستراتيجي الإقليمي

في المرحلة الراهنة من الصراع العربي الصهيوني، يمكن اختصار المشهد على النحو التالي:

- حرب دمار شامل وتجويع وإبادة جماعية ممتدة وتطهير عرقي في قطاع غزة المهدد بعودة الاستيطان والسيطرة الأمنية الإسرائيلية.

- معركة الاستيطان لحسم مصير الضفة الغربية المحتلة، واقتلاع أهلها وطردهم إلى الأردن، بعد اجتياحه مستقبلاً.

- بعد حرب إسناد غزة بين حزب الله والكيان الصهيوني، أطلق الأخير حرب دمار شامل على لبنان، أخفقت تماما في الميدان أمام المقاومة، ولم تنتهِ على رغم اتفاق وقف إطلاق النار.

- استهداف إسرائيلي متواصل لإيران: برنامجاً نووياً وتصنيعاً عسكرياً وغير ذلك، ليتكرر تبادل القصف الجوي بينهما، ولا يزال التوتر قائماً وقابلاً لإشعال حرب إقليمية.

- حرب أميركية بريطانية إسرائيلية على اليمن، رداً على الحصار البحري والقصف اليمني بالصواريخ والطيران المسيّر للاحتلال، إسناداً لغزة، واستهدافات متفرقة ضد المقاومة العراقية المساندة لغزة.

- وسع الاحتلال قواعد الاشتباك مع سوريا مؤخراً، لفرض مبدأ "حظر التسلح" بالكامل، بالغارات الجوية والقصف المكثف وتدمير عتاد الجيش السوري ومخازنه وقواعده البرية والجوية والبحرية ومراكز الأبحاث، وكل ما يفيد الدولة والأمن القومي.

- مع احتلال مرتفعات الجولان السورية منذ 57 عاماً، احتل الكيان الصهيوني مؤخراً قمماً استراتيجية في جبل الشيخ، وألغى اتفاقية فصل القوات (1974)، ليحتل المنطقة العازلة، وأخلى بلدات وقرى سورية، وبات على بعد 25 كيلومتراً عن العاصمة.

- يسعى الكيان الصهيوني لتقسيم سوريا وتجزئتها إلى دويلات أو جيوب منفصلة، وفق قاعدة: جيب لكل طائفة: الأكراد في الشمال الشرقي، الدروز في الجنوب، العلويون في الشمال الغربي. وهذه ليست مجرد أمنيات وأفكار، بل خلفها خطط ومشروعات، في ضوء تصريح وزير خارجيته، جدعون ساعر: "إن الاعتقاد أن سوريا ستبقى دولة واحدة ذات سيطرة وسيادة فعالتين على كامل أراضيها أمر غير واقعي".

- بدوره، أصبح الكيان الصهيوني متورطاً في حروب أبدية بلا نهاية واضحة أو خطط محدَّدة أو أهداف ممكنة، ينتهي بعدها القتال وتستأنف الحياة سيرتها المعتادة. يفاقم ذلك تبجح بنيامين نتنياهو وإصراره على تحقيق "نصر مطلق" وسحق المقاومة، وتغيير النظام الإيراني، و"تغيير وجه الشرق الأوسط"، فأصبح استمرار الحروب وتيرة متواصلة من دون ما يسمى "اليوم التالي".

التوازن الاستراتيجي

في تشرين الثاني/نوفمبر 1982، وصل إلى الزعامة السوفياتية يوري أندروبوﭪ (1914-1984)، وتبنى توجهاً متحدياً للهيمنة الأميركية وسباق التسلح الذي أطلقته إدارة رونالد ريغان، التي تراجعت عن سياسة الوفاق الدولي والاسترخاء العسكري، التي اتخذها الرئيس ريتشارد نيكسون. استجاب أندروبوﭪ لرغبة الرئيس السوري حافظ الأسد في رفع مستوى التسلح السوري لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، وحصل الجيش السوري على قدرات عسكرية متقدمة، وخصوصاً الصواريخ الباليستية والدفاع الجوي.

دامت زعامة أندروبوﭪ عاماً وثلاثة أشهر فقط، وشابت رحيله شكوك بشأن دور خارجي في تسميمه خلال علاجه من فشل كلوي وأمراض شيخوخة. وخلفه قسطنطين تشيرنينكو (1911-1985)، الذي رحل أيضاً بعد 13 شهراً فقط، وتواصل الدعم العسكري السوفياتي لسوريا. ثم بدأت زعامة ميخائيل غورباتشوﭪ، الذي بدأ تفكيك النظام السوفياتي عبر مبادرتيه: "غلاسنوست" و"بيريسترويكا"، الأمر الذي أدّى إلى ظهور عوارض الضعف والإفلاس والتراجع السوفياتي، وتوقف تقريبا الدعم العسكري لسوريا.

في نيسان/أبريل 1987، قام حافظ الأسد بزيارة موسكو لمطالبة غورباتشوﭪ باستئناف دعم موسكو لخطة التوازن الاستراتيجي، لكن غورباتشوﭪ قرأ له قائمة بمصروفات الرئاسة السورية في شراء عشرات السيارات الفارهة من طرازات أوروبية متعددة لاستخدام جهاز الرئاسة وغيره. وقال له إن المواطن السوفياتي لا يجد السلع الضرورية!

أدرك حافظ الأسد أن زمن الدعم العسكري السوفياتي السخي انتهى، والخطوة الأول التي اتخذها هي تحويل مسار عودته ليمر في طهران قبل دمشق، لينتقل التعاون القائم فعلياً بين سوريا وإيران إلى مستوى تحالف استراتيجي. موضوعياً، لم تكن هناك مشتركات أيديولوجية أو قومية أو ثقافية أو مصالح اقتصادية كبرى بين الدولتين، باستثناء التناقض الجذري مع الكياني الصهيوني ومشروعه الاستيطاني الاستعماري الإحلالي.

أضاف هذا التحالف الكثير إلى سوريا، وعزز عوامل استقرارها ومناعتها الاستراتيجية في وجه العدوانية الصهيونية، وتنسيق التصدي للاحتلال الإسرائيلي في جنوبي لبنان، ودعم المقاومة اللبنانية للاحتلال حتى هزيمته وتحرير جنوبي لبنان في أيار/مايو 2000. وأصبحت المقاومة اللبنانية، عبر دعم إيراني ودعم سوري، إضافة استراتيجية عالية القيمة، أكدها الانتصار على العدوان الإسرائيلي في حرب تموز 2006، وعزز الوضع الاستراتيجي السوري.

على مدى أربعة عقود، قدمت إيران مساعدات سخية: اقتصادية وتقنية وعسكرية ونفطية بعشرات المليارات، واستثمرت شركاتها في مشروعات صناعية دعمت الاقتصاد السوري، وحظيت الصادرات السورية بأفضلية تجارية لدى إيران. واستطاعت دمشق الموازنة بين هذه العلاقة الاستراتيجية ودورها عربياً ضمن المحور السعودي - المصري - السوري، الأمر الذي عزز استقرار سوريا ومناعتها الجيوسياسية.

مثلث القوى الإقليمية

تُملي هذه التحديات والمخاطر، القديمة والجديدة، على سوريا، شعباً ونخباً وقيادة، تبني خيار المقاومة ومنحها الاهتمام والأولويات والسياسات الكفيلة بذلك. وفي ضوء مشروع المقاومة، يجب أن تجري إعادة الإعمار وبناء الدولة والاجتماع والاقتصاد.

إقليمياً، تقع سوريا والكيان الصهيوني الدخيل في مركز مثلث قوى الإقليم التاريخية الراسخة: إيران وتركيا ومصر. وستتوقف قدرة إدارة سوريا الجديدة على التصدي لهذه المخاطر الكبرى على نجاحها في إقامة علاقات وثيقة ومتوازنة بهذا المثلث، ويكون القاسم المشترك بينها تعزيز المناعة الاستراتيجية السورية هدفاً أعلى لردع المشروع الصهيوني وإجهاض تمدده.

الهدف هنا هو الوصول إلى توازن قوى إيجابي يكفل لسوريا استقلال القرار وحرية الإرادة، بمواجهة الهيمنة الاستعمارية والعدوانية الصهيونية ومختلف أشكال العقوبات والحصار والاحتواء، ثم تحرير أرضها وإنجاز تنمية بناءة والنهوض بقضايا الأمة.